كان المفكر الشيوعي المؤثر كارل ماركس، الذي تُوفي في 14 مارس/آذار 1883، عالم اقتصاد واجتماع وفيلسوفاً ألمانياً.
في السطور التالية يروي البروفيسور الفرنسي غريغوري كلايس، أستاذ تاريخ الفكر السياسي في كلية رويال هولواي بجامعة لندن، ومؤلف كتاب "ماركس والماركسية"، حقائق عن حياة كارل ماركس وموته ونظريته وإرثه، ويوضح كيف ظل ماركس ديمقراطياً طوال حياته.
من هو كارل ماركس؟
كان كارل ماركس عالم اقتصاد واجتماع وفيلسوفاً ألمانياً. وُلد في 5 مايو/أيار 1818 بمدينة ترير الألمانية، التي كانت آنذاك جزءاً من ولاية راينلاند البروسيّة، وتُوفي بالعاصمة البريطانية لندن في 14 مارس/آذار 1883.
أصبح ماركس مهتماً بالشيوعية -النظرية القائمة على أساس الملكية المشتركة لوسائل الإنتاج وإدارتها للصالح العام- بعد أن بدأ حياته المهنية صحفياً متطرفاً في أوائل الأربعينيات من القرن التاسع عشر.
واصل ماركس مسيرته ليصبح المؤيِّد الأبرز للشيوعية في أوروبا خلال القرن التاسع عشر وذاع صيته بشكلٍ رئيسيّ من خلال مشاركته في كومونة باريس (الثورة الفرنسية الرابعة) عام 1871، وهي انتفاضة الطبقة العاملة الاشتراكية التي استمرت شهرين ضد الحكومة الفرنسية.
وبعد الثورات الأوروبية عام 1848 -وهي سلسلة من الثورات الشعبية ضد الملكيات الأوروبية في صقلّيّة وفرنسا وألمانيا وإيطاليا والإمبراطورية النمساوية- عُوقب ماركس بالنفي بسبب معتقداته السياسية.
انتقل ماركس إلى لندن (حيث أقام لبقيّة حياته) وقضى كثيراً من وقته في الدراسة بقاعة القراءة في المتحف البريطاني. وعاش ماركس حياة غامضة نسبياً وفي فقرٍ مدقع للعديد من السنوات وكان يعوِّل بشكلٍ رئيسيّ على مساهماتٍ منتظمة من شريكه الفكريّ المخلص فريدريك إنغلز، الذي كان يعمل في مصنع والده لغزل القطن بمدينة مانشستر الإنجليزية.
يُعد أشهر أعمال ماركس هو كتاب البيان الشيوعي (1848) الذي كتبه مع إنغلز.
يتنبّأ الكتاب بسقوط النظام الرأسمالي نهائياً، مع توضيح كيفيّة صعود العمال يوماً ما للسيطرة على وسائل الإنتاج. ومع ذلك، يمكن القول إنّ دراسة ماركس الأكثر إثارة للإعجاب هي كتاب رأس المال (1867)، الذي يستكشف أصول النظام الرأسمالي وتطوره وآليات العمل الداخلية له.
عرفنا من هو.. لكن ما هي معتقدات كارل ماركس؟
لفهم مبادئ معتقدات ماركس من المهم أن ندرك ما كان يحدث في أوروبا خلال القرن التاسع عشر.
خلال هذه الفترة، قُدِّم نظام تصنيع جديد يركّز بشكل متزايد على القوى العاملة (البروليتاريا الصناعية) التي تعمل بأجورٍ ضئيلة في ظروفٍ خطيرة وغير صحيّة. إذ كان الفقر متفشياً في الأحياء الحضرية الجديدة.
وكان كارل ماركس يؤمن بأنه كلما جرى إفقار المزيد من العمال، فإنهم في النهاية سيثورون ضد رؤسائهم.
عندئدٍ سيقنع أنصار الاشتراكية القوى العاملة بأن الإنتاج من أجل تلبية الاحتياجات البشرية (وليس الربح) هو الأفضل. وسيقنعون البروليتاريا بمحاولة الإطاحة بالنظام، حسبما اعتقد ماركس.
وبعد هذه الثورة المتخيلة -التي افترض ماركس في سنواته الأولى أنها ستكون عنيفة- ستبدأ مرحلة تُدعى "ديكتاتورية البروليتاريا"، التي ستبدأ فيها حكومة منتخبة من الطبقة العاملة في إدارة الاقتصاد.
وستصبح بالتالي جميع وسائل الإنتاج والبنوك ووسائل النقل والأراضي مملوكة ملكية عامة، وستوضع سياسة عامة مركزية للتأكد أنّ السلع المنتجة تتناسب مع احتياجات السكّان.
بعد فترةٍ طويلة من التطور -التي قد تستمر لأجيال- ستختفي "الدولة" عن الوجود بمفهومها كمنظّمة دخيلة تمتلك إرادة ومصلحة منفصلة عن مصلحة عامة الشعب.
في نهاية المطاف سيظهر مجتمع شيوعي تنتهي فيه معظم أشكال الإكراه والاستغلال (مثل استغلال العمال وعدم منحهم أجور عادلة).
اشرح لي أكثر.. كيف طوَّر كارل ماركس أفكاره؟
اعتمد ماركس على تحليلات عددٍ من الكتّاب الاشتراكيين السابقين أبرزهم الويلزي روبرت أوين، والفرنسيين شارل فورييه وهنري دون سان سيمون، الذين أكدوا منذ عام 1815 فصاعداً أن هناك حاجة إلى استبدال نظام قائم على الملكية و/أو الإدارة المشتركة بالرأسمالية.
بحلول عام 1845، أصبح ماركس مقتنعاً بأن الرأسمالية -وهي نظام اقتصادي وسياسي قائم على المنافسة في السوق والتقدُّم التكنولوجي المتزايد- كانت عرضة لعمليّة من الأزمات المالية المتكررة، والتي أصبحت فيها الثروة ترتكز بشكلٍ متزايد في أيدي قلة من الناس.
لم تُنشر العديد من كتابات كارل ماركس الرئيسية خلال حياته. وغالباً ما يبدأ القراء المعاصرون باثنين من أعماله: كتاب مخطوطات باريس الذي كتبه عام 1844، وكتاب الأيديولوجيا الألمانية الذي شارك في كتابته مع فريدريك إنغلز بين عامي 1845 و1846، وكلاهما لم يُصدر بالكامل إلا عام 1932 على يد باحثين في الاتحاد السوفييتي ولم تجرٍ مناقشتهما على نطاقٍ واسعٍ حتى ستينيات القرن الماضي.
يثير عدم نشر ماركس لأيٍّ من هذين الكتابين تساؤلاتٍ حول ما إذا كان يعتبر أنّ صياغتهما لم تكن مناسبة أو ناضجة. ورغم ذلك، طوَّر ماركس موضوعات من هذين الكتابين في أعمالٍ لاحقة.
وفي مخطوطات باريس عام 1844، يصف ماركس عملية "اغتراب" العامل عن عمليّة الإنتاج وعن منتجه الخاص وعن العمال الآخرين، وعن "الطبيعة البشرية"- وهي وعيٌ ذاتيّ اشتراكي يوفر أساس التواصل الاجتماعي.
كذلك يرى ماركس أنّ تقسيم العمل إلى مهمّات صغيرة متكررة يمنع العمال من تحقيق تنمية شاملة لقدراتهم الفكرية. ويزعم ماركس أن هذا يفصل العمال عن بعضهم من خلال جعلهم متنافسين؛ وبالتالي يقوِّض الغريزة الفطرية للتضامن في الطبيعة البشرية.
أمّا في كتابه الآخر "الأيديولوجيا الألمانية"، يبدو أنّ ماركس تخلّى عن مفهوم "الطبيعة البشرية" لصالح رصيد تاريخي أكثر من الرأسمالية باعتبارها "المرحلة الأخيرة في الإنتاج".
ورأى ماركس أيضاً الآن التضامن الذي حققه العمال من خلال تعاونهم في العمل. وكان هذا، حسب اعتقاده، دليلاً على أن التواصل الاجتماعي ينذر بظهور مجتمعٍ جديد.
في هذه المرحلة، رأى ماركس أن الرأسمالية تلعب دوراً تقدّمياً إلى حدٍّ كبير في القضاء على الإقطاعية (النظام الاجتماعي المهيمن على أوروبا في العصور الوسطى)، وزيادة احتمال السيادة الشعبية، رغم قيود الطبقة البرجوازية.
أما في السنوات اللاحقة فقد ابتعد ماركس عن إمكانية القضاء على "الاغتراب" وتحوّل إلى وجهة النظر القائلة إن زيادة الميكنة (صعود العمل الذي يشمل استخدام الآلات) من شأنها أن توفر المزيد من وقت الفراغ للطبقات العاملة.
مع ذلك، في عام 1844، اعتبر ماركس أن الشخصية "المشوَّهة" للعمال هي نتيجة رئيسية للرأسمالية. وكتب ماركس في كتابه "رأس المال" عام 1867 قائلاً: "إنهم يشوهون العامل ليصبح شبه رجل، ويهينونه لدرجة اعتباره تابعاً للآلة".
ما مدى مسؤولية ماركس عن انتشار الشيوعية؟ خصوصاً في الاتحاد السوفييتي؟
كانت هناك العديد من أنواع الماركسية التي قُدِمت في أوائل القرن العشرين، وكان أبرزها المرتبط بحزب الطبقة العاملة الرائد في أوروبا: الحزب الاشتراكي الديمقراطي في ألمانيا.
لم يتّفق هؤلاء الذين يُطلق عليهم "الرجعيّون" -وأبرزهم الألماني إدوارد برنشتاين من الحزب الاشتراكي الديمقراطي- مع الكثير مما اقترحه كارل ماركس، بما في ذلك فكرة أن الرأسمالية ستؤدي إلى كارثة ثورية كبرى في نهاية المطاف.
بدلاً من ذلك، رأى الحزب الاشتراكي الديمقراطي الألماني أنه قد يجري إصلاح النظام تدريجياً وسلمياً من خلال الاقتراع.
في روسيا، في ذات الوقت، أصرت الثورة البلشفية عام 1917 على تقديم تفسير ثوري لأفكار ماركس.
كان البلاشفة حزباً صغيراً في روسيا بقيادة فلاديمير لينين، الذي كان هدفه إطاحة الحكومة المؤقتة وتأسيس حكومة للبروليتاريا (القوى العاملة).
أصرّ لينين على أن جماعة تآمرية مكرَّسة يمكنها الوصول إلى السلطة السياسية. ولكن من أجل الحفاظ عليها، يجب أن تبقى السلطة في أيدي مجموعة صغيرة داخل الحزب، وربما حتى في يد ديكتاتور واحد.
لم يؤيِّد ماركس نفسه مثل هذه الاستراتيجية قط، إذ ظل ديمقراطياً طوال حياته ومُصراً على ضرورة انتخاب القادة ومحاسبتهم وعدم حصولهم على رواتب أعلى من أجر العامل المتوسط.
رغم ذلك، ادَّعى لينين أن نظامه لا يزال ديمقراطياً، مطلقاً عليه "المركزية الديمقراطية"؛ ليشير إلى عملية صنع القرار التي شملت استشارة الجماهير، ولكنها تدفّقت بعد ذلك من الأعلى إلى الأسفل.
بعد موت لينين عام 1924، صعد جوزيف ستالين سريعاً إلى السلطة. خلال ثلاثينيات القرن الماضي، وبينما كان يشغل منصب السكرتير العام للحزب الشيوعي السوفييتي، بدأ ستالين في تطهير روسيا من أي شخص رأى أنه يمثل تهديداً له ولتصوراته.
قُتِل أكثر من 750 ألف شخص وسُجِن عدة ملايين آخرين في ظل نظام سجن غولاغ للعمل القسري. يُعدّ إجمالي عدد الذين ماتوا في عهد ستالين غير معروف، لكن يُعتقد أنه ربما تخطى 20 مليون شخص.
مات أكثر من ذلك بكثير في الصين بعد ثورة ماو تسي تونغ زعيم الحزب الشيوعي عام 1949، بمن في ذلك 46 مليون شخص قُتِلوا خلال فترة "القفزة الكبرى إلى الأمام" (بين عامي 1958 و1961)، التي كانت محاولة لإنشاء برنامج صناعي لامركزي قائم على إنتاج الصُلب.
يمكن اعتبار نظريات ماركس مسؤولة جزئياً على الأقل عن بعض هذه الكوارث، لكنها ليست مسؤولة عن مثل هذه "الديكتاتوريات الشمولية".
ما الذي يجعل ماركس مهماً أو ذا صلة في الوقت الحالي؟
كان كارل ماركس -مثله مثل أيّ شخصٍ آخر- قائداً ملهماً وصاحب رؤية منحت الأمل للملايين في أن الحياة الكادحة المضنية الأبدية ليست قدراً محتوماً على معظم البشرية.
كان ماركس في الأساس مفكّراً مثالياً، رغم أنه كان يكره مصطلح "المدينة الفاضلة"، وطرح مفهوماً للحياة الجيدة في المستقبل، ثم طالب البشرية بالسعي وراء هذا الهدف.
واليوم، لا يزال كارل ماركس أبرز المفكرين في العصر الحديث الذين يشيرون إلى أنّ الرأسمالية مرحلة محدودة تاريخياً من التطور، ويؤكدون أن نظام الإنتاج والتوزيع الأكثر إنسانية قد يحل محلها.
ورغم النقائص المذكورة أعلاه، يعد ماركس محور النقاشات الحالية حول تطوير مستقبل البشرية.
كما يمكن القول إنّ أكبر مشكلة تواجه البشرية في هذا القرن هي الانهيار البيئي. هنا، من الغريب أنّ ماركس ربما فشل في إدراك أنّ "الثورة البروليتارية" قد تؤدي إلى "ثورة برجوازية"، حيث يعرف العمال أنفسهم بأنهم مستهلكون.
تصوُّر ماركس نظاماً شيوعياً تضمن من خلاله المستويات العالية للإنتاج الصناعي مستوى معيشياً جيداً لجميع السكان.
لم تضع نظريته في الحسبان مشكلات ندرة الموارد والاكتظاظ السكّانيّ، وهي مشكلات لم تكن بالتأكيد ذات صلة لعصره.
مع ذلك، كان ما لاحظه ماركس بدهاء هو أنّ هؤلاء الذين يتربّحون من النظام الحالي سيقاومون أي تغيير جوهري له، حتى لو كان سيعرِّض حياة الأجيال القادمة للخطر.
يكمُن منطق الرأسمالية في تحقيق أقصى قدرٍ من الأرباح، إذ لا يمكن لأيٍّ غاياتٍ أخرى تغيير هذا الهدف. لكنّ بقاء البشرية، كما أدرك ماركس، تشير بوضوح إلى ضرورة اعتماد استراتيجياتٍ أخرى إذا كان نريد تجنُّب أسوأ أشكال المستقبل المظلم (الديستوبيا).
وهنا يوفر ماركس الإلهام على الأقل -إن لم يكن السبيل إلى الراحة.