لم تجد المُخابرات الإسرائيلية سبيلاً للقضاء على مصطفى حافظ مسؤول المُخابرات المصرية في قطاع غزة، منذ نهايات حرب فلسطين وحتى بدايات العدوان الثلاثي على مصر، سوى بإرسال "طرد مُغلق يحتوي على عبوة ناسفة". إنه الرجل الذي أزعجهم وأربك حساباتهم بعمليات مقاومة فدائية بارعة. قفي مساء 11 يوليو/تموز عام 1956 دوى صوت انفجار في مقر قيادة المخابرات المصرية في غزة، معلناً نهاية مصطفى حافظ.
كان حافظ أول من بدأ تأسيس قوات "الفدائيين الفلسطينيين" لمُهاجمة أهداف إسرائيلية وأشرف بشكل مباشر على العديد من العمليات التي أزعجت جيش الاحتلال، لذلك أُطلق عليه لقّب "الرجل الظل".
بعد الحادثة بأيام وقف الرئيس المصري جمال عبد الناصر أمام شعبه في خطاب جماهيري قائلاً: "في الأيام القليلة الماضية اُستشهد اثنان من أعز الناس علينا، ومن أخلص الناس إلينا، اُستشهد مصطفى حافظ قائد جيش فلسطين، وهو يؤدي واجبه، من أجلكم ومن أجل العروبة ومن أجل القومية العربية، مصطفى حافظ الذي حمل مسؤولية أن يُدرب جيش فلسطين وأن يبعث جيش فلسطين، وأن يبعث اسم فلسطين".
وأضاف: "هل تاه عنه الاستعمار؟ هل تاهت عنه إسرائيل صنيعة الاستعمار؟ أبداً، فإنهم كانوا يجدون في مصطفى حافظ تهديداً مُباشراً لهم، وتهديداً مُباشراً لأطماعهم".
ولد مصطفى حافظ في قرية زاوية البقلي بالمنوفية عام 1920، وعند بلوغه 22 عاماً التحق بالجيش المصري. ترقى سريعاً وتدّرج في الرتب المُختلفة، وفي عام 1950 تسلم قيادة المُخابرات المصرية في قطاع غزة الذي كان تحت الإدارة المصرية بعد تقسيم فلسطين عام 1947. كانت مَهمة حافظ إدارة جميع عمليات التجسس داخل إسرائيل، وإدارة الاستخبارات المُضادة لأنشطة أجهزة الأمن الإسرائيلية داخل قطاع غزة.
سرية العمل وبداية تأسيس وحدة الفدائيين
"عزيزتي دُرية حفظها الله، تحياتي وأشواقي القلبية الزائدة، أرجو أن تكوني والعائلة بخير، وبعد، هذا هو الخطاب الثاني أرسله إليكِ وأسافر يوم السبت إلى حيفا وتل أبيب، وسأمضي ليلتي هناك، وبعدها سأسافر إلى القدس لمُشاهدة هذه البلد المُقدسة، وإني لمُعجب بهذه البلاد الجميلة التي كُنت أسمع عنها في التاريخ، فإنها جميلة حقاً، وكنت أودّ أن تكوني معي ليكتمل سروري ويتم هنائي".
كانت هذه إحدى رسائل حافظ إلى زوجته متحدثاً فيها عن عمله. وتعلّق زوجته عليها: "لم يكن أبداً يتحدث عن عمله في البيت، أو يُشير إليه بأي شكل من قريب أو بعيد، مهما انقلبت الدنيا رأساً على عقب في العمل لم يكن يروي ما يحدث أبداً".
خلال عمله أسس حافظ ودرّب وحدة الفدائيين الفلسطينيين عام 1955، وكان مسؤولاً عن مُساعدة الفلسطينيين في غاراتهم على إسرائيل في الخمسينيات بأوامر من الرئيس جمال عبد الناصر. درب حافظ وحدة الفدائيين على مواجهة الوحدة رقم 101 الإسرائيلية والتي شكلها حينها أرييل شارون للإغارة على القرى الفلسطينية، والانتقام من عمليات الفدائيين، وقد فشل شارون في التخلص من حافظ، مما جعل مهمة التخلص منه تنتقل إلى المُخابرات الإسرائيلية.
تقول زوجته في حوار مع فضائية ten المصرية "حافظ هو الذي أسس الفدائيين، لم يكن هناك قبله ما يُعرف بهذا الاسم، ظل شهراً كاملاً في مدينة خان يونس، لينتقي من بين الشباب المتطوعين من يصلح للانضمام لوحدة الفدائيين، كان من بين كل عشرين شاباً يختار شاباً واحداً، وظل ليلاً ونهاراً مُتابعاً لمجموعة الفدائيين التي أسسها".
أدار حافظ عمليات تسلل قوات المقاومة عبر الحدود المصرية إلى داخل فلسطين المُحتلة، وبحلول منتصف الخمسينيات، كان قد أدار وخطط نحو 20 عملية فدائية واستخباراتية ضد الاحتلال. كانت أكبر عملياته في أبريل/نيسان عام 1956 عندما نجح في إرسال نحو 300 فدائي فلسطيني خلال أسبوع واحد إلى فلسطين المُحتلة، حيث قاموا بتنفيذ عمليات فدائية ضد مُستوطنات وكمائن إسرائيلية مُتنقلة.
كان حافظ يُدير عمليات رجاله الفدائية ببراعة، بحيث يؤدون ما طُلب منهم ثم يعودون إلى قطاع غزة سالمين، تاركين وراءهم رغبة المدنيين الإسرائيلين في الهجرة من فلسطين المُحتلة لعدم إحساسهم بالأمان بها.
الرجل الظل!
جهود حافظ في أداء مهامه هي ما جعلته يحظى بثقة الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر، فمنحه أكثر من رُتبة استثنائية حتى أصبح عميداً وعمره لا يتجاوز 34 عاماً. كان ملف حافظ في الموساد يحمل اسم "الرجل الظل"، فلم تتمكن أجهزة المُخابرات الإسرائيلية أن تلتقط ولو صورة واحدة لحافظ. أما أوصافه التي تمكنوا من الحصول عليها فكانت عن طريق فدائيين تعاملوا معه بشكل مُباشر بعد إلقاء القبض عليهم.
قررت الأجهزة الأمنية الإسرائيلية التخلص من حافظ أي كان الثمن، فتم رصد مبلغ مالي كبير لتحقيق الهدف. وأُسندت المَهمة إلى مجموعة مُكونة من خمسة أشخاص من كبار أفراد المُخابرات الإسرائيلية، اُختيروا لخبرتهم الواسعة بثقافة العرب وطباعهم وعاداتهم وردود أفعالهم السياسية والنفسية، وذلك بعد أن فشلت الوحدة 101 بقيادة أرئيل شارون في تحقيق هدف التخلص من حافظ.
خطة تصفية تنفيذها صعب
كانت الخطة هي تصفية مصطفى حافظ باستخدام عبوة ناسفة تصل إليه بطريقة ما. وضع الخطة رئيس استخبارات جيش الدفاع الإسرائيلي الجنرال يوشع هرشابي، وبدأ التفكير في الكيفية التي ستصل بها العبوة الناسفة إليه وفقاً لكتاب موسوعة أشهر الاغتيالات في العالم.
فكرت المُخابرات الإسرائيلية بإرسال طرد بريدي يحتوي على العبوة الناسفة. لكن الفكرة كانت تبدو في البدء صعبة، إذ كيف يُمكن إرسال طرد إلى غزة دون إثارة الشكوك حوله. وكيف سيثيرون فضول حافظ حتى يتعامل معه بنفسه، إذ كان من ضمن المعلومات التي جمعتها المُخابرات الإسرائيلية عنه أنه عادة لا يفتح الطرود البريدية بنفسه.
استغلت المخابرات الإسرائيلية أحد الفدائيين الذين وقعوا في الأسر، وكان في الأصل من السجناء الجنائيين، الذين أُفرج عنهم للعمل في كتيبة الفدائيين، ساومه الموساد في الإفراج عنه مقابل أن يكون عميلاً مزدوجاً، وهو رجل بدوي في الخامسة والعشرين من عمره يُدعى "طلالقة". كان طلالقة سبق وأن نفذ 6 مهام طلبها منه حافظ في إسرائيل، ولم يكن يعرف أن الطرد الذي سيحمله سيكون ملغوماً.
خديعة إسرائيلية ناجحة
استطاعت المُخابرات الإسرائيلية إيهام طلالقة أن الطرد يحتوي على كتاب للشفرة مُرسل لشخص مهم في غزة يعمل معهم. وتم اختيار قائد شرطة غزة "لطفي العكاوي" ليكون هذه الشخصية. وهو ما قد يجعل حافظ يأخذ الطرد على الفور دون تردد في فتحه كي يعرف ماهية علاقة لُطفي العكاوي بالاسرائيليين. وحصل ذلك بالفعل، انفجر الطرد في وجه حافظ، وتحقق لهم ما أرادوه.
يقول يُسري قنديل، رئيس مُخابرات القوات البحرية خلال حرب الاستنزاف، عن حافظ في تقرير مُصور لموقع جريدة البديل المصرية: "كان حافظ يُدبر ويُخطط للأعمال الفدائية، ومع ذلك كنت تجده مرحاً وبسيطاً، بشكل يجعلك تستبعد أن يكون هو نفس الشخص، ولم تكن خطورته في إدارة العمليات الفدائية فقط، ولكنه كان أيضاً يستطيع تجنيد عُملاء إسرائيلين لكي يقوموا بالمهام التي يُكلفهم بها ضد إسرائيل، فهذه كانت خطورته وسبب تعجيل انتقامهم منه".
في مساء يوم اغتياله جلس "مصطفى حافظ" على كرسي في حديقة وحدته الأمنية في قطاع غزة، كان قد عاد قبل يومين فقط من القاهرة، وكان يتحدث مع أحد رجاله. في ذلك الحين وصل إليه "طلالقة"، حاملاً نبأ غير سار، فلديه معلومات أن "العكاوي"، والذي يُعدّ أحد رجال حافظ المُقربين، يتعامل مع إسرائيل.
ادّعى طلالقة أنه أتى من هناك بطرد مُغلق يحتوي على كتاب فك شفرات يجب تسليمه لعكاوي. انزعج حافظ، خصوصاً أنه كان يُدافع كثيراً عن "العكاوي" الذي أُتهم أكثر من مرة بالاتجار في الحشيش، لكن هذه المرة هناك دليل على إدانته بما هو أشد سوءاً من الحشيش، إنها إدانة بالتخابر مع إسرائيل.
قرر "حافظ" أن يفتح الطرد المُغلف بنفسه ثم يُغلقه من جديد ويرسله إلى العكاوي، أزال الغلاف دفعة واحدة، عندئذ سقطت على الأرض قصاصة ورقية انحنى لالتقاطها. وفي تلك اللحظة وقع الانفجار، واُستشهد حافظ.
ووفقاً لصحيفة الغارديان البريطانية التي أجرت حواراً مع ابنة حافظ، فإن ضابط المُخابرات المصرية مُصطفى حافظ قام بتنظيم غارات قاتلة من غزة قتل فيها مئات اليهود، بما في ذلك العديد من المدنيين، وكان اغتيال المُخابرات الإسرائيلية له بهدف ضرب رجل اعتبره الكثيرون حاكماً فعلياً لقطاع غزة. لكن بين عشية وضحاها، وفقاً للصحيفة، تحول العقيد حافظ إلى شهيد وبطل بالنسبة للقضية العربية والرأي العام العربي.