بأي لسان نطق آدم؟
ما يميز البشر عن الكائنات الأخرى على هذا الكوكب هو قدرتنا على التعبير عن الأفكار والمفاهيم والمحسوسات من حولنا، نطقاً وكتابةً.
فكل علماء اللغة يتفقون عىل أن البشر الأوائل كانوا قادرين على التواصل فيما بينهم بلغة ما.
إن قدرتنا على معرفة اللغات القديمة تعتمد بشكل أساسي على عامل مادي مباشر ألا وهو الكتابات والنقوش القديمة، كالنقوش المسمارية التي دلّت على لغة بلاد الرافدين، والأبجدية العربية الجنوبية، والشمالية التي دلت على لغة أهل الجزيرة وبلاد الشام، والنقوش الهيروغليفية المصرية، والكتابة الهيراطيقية على ورق البردي… إلخ.
في العادة يعمد علماء الآثار واللغويات إلى مقارنة تلك الكتابات المدوّنة بلغتين معاً، إحداهما معروفة والأخرى مجهولة، لفك رموز الأخيرة.
وهو منهج لا بأس به لمعرفة معاني الكلمات، ويشتق لفظ الأحرف من مقارنة أسماء الأعلام والأماكن التي تكون ثابتة على الأغلب، فمثلاً أسماء الملوك والكهنة على حجر رشيد ساعدت على اكتشاف وإعادة إحياء اللغة المصرية القديمة.
وبعد هذه الاكتشافات المباشرة، يأتي دور علماء اللغويات لدراسة وشرح قواعد هذه اللغات المكتشفة، وبطريقة المقارنة أيضاً بين اللغات ذات الألفاظ والبنية القواعدية المتشابهة، وتتم صياغة شجرة عائلة للغات، فمثلاً اللاتينية والجرمانية وحتى السنسكريتية الهندية كلها تعود لعائلة اللغات الهندوأوروبية، أي أن هذه اللغات كلها تعود لجذر مشترك، للغة واحدة قديمة، كانت الأصل وتفرعت منها كل اللغات واللهجات الهندوأوروبية الحديثة.
وكذلك ما يُدعى باللغات السامية (نسبة للرواية التوراتية عن سام بن نوح) كالعربية والعبرية والآشورية والكنعانية، واللغات الإفريقية كالأمازيغية والمصرية القديمة والكوشية والصومالية، تجتمع كلها بجذر واحد أيضاً يطلق عليه اللغة الآفروآسيوية، وهي الأقدم (حوالي 10٫000 قبل الميلاد)، وفريق من العلماء (كهيرمان مولر وبيدرسين وستاروستين) يرى أن اللغات الآفروآسيوية والهندوأوروبية تجتمع أيضا في جذر أقدم هو اللغات الهندوسامية.
للأسف! وخلال القرنين الماضيين، معظم هذه الاكتشافات والتصنيفات كانت على أيدي علماء غربيين بالمجمل، لا نريد الطعن بمصداقيتهم أو أمانتهم العلمية، على العكس، كل الشكر على المجهود المبذول لدفع عجلة الحضارة والتقدم للأمام، ولكن تبقى نقطة واحدة تستحق التعليق والتدقيق! فمهما كان علماء الغرب على دراية بعلوم اللغويات، فإن قدرة أحدهم على شرح لغة ليست منقرضة، بل حية الآن كالعربية الفصحى يبقى محدوداً.
فأولاً، معظمهم كان تنقصه القدرة البلاغية والنطقية للتلفظ بالأحرف بالطريقة الصحيحة، فنجد أن ترجماتهم للغات القديمة مثلاً تجعل حرف العين ألفاً، والحاء هاءً، والخاء كافاً، وبعض الكلمات الناشئة من جذرين مختلفين كـ"باب" و"إل" بمعنى إله تصبح كلمة واحدة "بابل" أي "باب الله"، وكلمات أخرى كأسماء الأشخاص والآلهة تفرغ من معناها بهذا الدمج السطحي من دون الرجوع للخلفية الحضارية واستخدام كل الجذور المتاحة في التفسير، وللأسف تبقى هذه المسميات وكأنها غريبة على مسامعنا بسبب هذا اللحن في النطق الغربي للكلمات ذات الأصول العربية.
فمن ملوك بلاد الرافدين القدامى "آسرحدون" لكن ببعض التدقيق والمراجعة يتبين أن "آسرحدون" هي "أشور أخا يدينا"، أي "أشور أخاً يعطينا"، بل إن كلمة "آشور" الإله هي "عن شور" و"عن" بمعنى ظهر، ولهذا نقول عنان السماء أي ما ظهر من السماء، والشَّور هو عرض الشيء وإظهاره، ومن هنا نقول إشارة، وكأن المعنى هو "الظاهر في العنان" أو "الظاهر في السماء".
ومن ذلك اللحن أيضاً ما جاء على أسماء المدن والأماكن، "فقرطاج" هي "قرية حدشت" أي قرية حديثة، وبعلبك قد تكون كونت بجمع "بعل" أي راعٍ أو رب و"بكك" تعني ازدحام الناس كدلالة على المدينة وبذلك سميت "مكة أو بكة" أو كلمة "بقق" وبَقَّ النَّبْتُ بُقوقاً، وذلك حين يَطلُع، فيصبح المعنى "مدينة الرب" أو "الرب أخرج الزرع".
مما يلفت النظر هنا مدى اتساع اللغة العربية واحتوائها على جذور تناسب معظم الكلمات والاشتقاقات في اللغات القديمة الأخرى، فمثلاً في اللغات الهندوأوروبية، الجذر (م – ل – ك (ق)) يعني اللبن أو الحليب، وفي العربية مَلَقَ الجَدْي أُمه يَمْلُقُها مَلْقاً: رضعها (لسان العرب)، وأما الجذر (أ – ر – د) يدل على الأرض (أ – ر – ض)، والأمثلة كثيرة، فيمكنك مراجعة بعض الأبحاث للدكتور زيدان علي جاسم أو كتاب لغة آدم لمحمد رشيد ناصر ذوق، للتعرف على اتساع العربية للغات الأخرى وتبين طرق تفرع القواعد والمصطلحات منها.
ولكن لندع الأبحاث الأكاديمية جانباً الآن، رغم قوة الدلالة على قدم العربية، ولنركز قليلاً على المنظور الإسلامي!
فنحن كمسلمين وبتراكم الحجج والبراهين آمنا بالله ورسله وكتبه، فالقرآن أتى باللغة العربية "الفصحى" وهي لهجة قريش، وأكثر اللهجات فهماً نظراً لقدوم جميع العرب للحج في مكة كل عام.
وأركز هنا على استخدام كلمة "الفصحى" فالعربية ليست الفصحى فقط، فأهل حِمْيَر في اليمن مثلاً كانت تتكلم العربية ولكنها حميرية اللهجة، كحديث "ليس من البر الصيام في السفر" الذي نطقه رسول الله على لسان أهل حمير لهم: "ليس من امبر امصيام في امسفر" بإبدال اللام في أل التعريف إلى ميم، كما نلاحظه في بعض اللهجات العامية اليوم كما في مصر بقولهم "امبارح" أي "البارحة"، فهي من أثر لهجة أهل اليمن القديمة.
ولكن لنعود إلى القرآن، ففيه ذكر لأسماء أعلام من الأمم السابقة، ونجد أن القرآن يبقي على اللفظة الدارجة لهذه الأسماء في تلك الأزمنة، فلم يعرّب الأسماء أو ينقلها بالمعنى، فبقيت إبراهيم وموسى وعيسى وهامان كما هي، لكن بالمقابل نجد أسماء أخرى تظهر فيها اللغة العربية بوضوح، كصالح وشعيب وهود، وهم من الرسل الأوائل من بعد الطوفان، ولكن الأغرب من هذا وعند ذكر قوم نوح، نجد الآية: "وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعاً وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً" (23) سورة نوح. واللافت للنظر أن هذه أسماء لأجداد صالحين من أولاد آدم عليه السلام، كان السابقون قد أرادوا تكريمهم وتذكرهم، فصنعوا لهم التماثيل، ومع مرور الوقت عُبدوا كآلهة، لكن هذه الأسماء كلها عربية! فاسم "ود" من الفعل "ودد" أي أحب، و"سواع" من سوع وهو الجزء من الليل أو النهار ومنه نقول ساعة، و"يغوث" من غوث بمعنى طلب المساعدة، و"نسر" هو الطائر المعروف من الجوارح، من فعل "نسر" أي نتف اللحم.
وحتى "آدم" من فعل "أدم" والأُدْمُ الأُلْفَةُ والاتِّفاق، وفلان أَدْمُ أَهْلِه وأَدْمَتُهم أَي أُسْوَتُهم، وبه يُعْرَفون ونقول أديم الأرض، أي الظاهر منها (لسان العرب).
مما يدعو للتساؤل، هؤلاء هم أول البشر، حينما كانوا قرية واحدة، وهم من ولد آدم الأوائل، وها هي أسماؤهم عربية؟! فهل حقاً كان آدم ينطق العربية (وإن لم تكن الفصحى كما نعرفها الآن!)؟ وهل هذا يفسر لماذا جاءت آخر الرسالات بالعربية أيضاً؟!
ربما على علماء اللغويات العرب القيام بالمزيد من الأبحاث لتكتمل المسيرة العلمية التي بدأت في القرنين المنصرمين، ولتصحيح الأخطاء والقصور عند العلماء الغربيين لمحدودية درايتهم باللغة العربية.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.