أورجندة وسمرقند مدينتان كبيرتان يفصل ما بينهما نهر اسمه جيحون، ولعل من روعة وجمال سمرقند أن اتخذها جنكيز خان مقراً لحكمه عند دخولها، وذلك بعد سقوط بخارى في قبضة التتار، ولعل وقتها سمع أهل سمرقند بما جرى في بخارى من قتل لإخوانهم وسبي لنسائهم وحرق لممتلكاتهم، ناهيك عن احتلال جزء من أراضيهم وهي بخارى، ولزاماً عليهم أن تنتفض المملكة، مملكة خوارزم شاه، كلها دفاعاً عن أهلهم في بخارى.
لم يكن القرار بالشيء السهل، إذ كان القرار متروكاً لوالي سمرقند وحاشيته، وقد كان القرار بعد تفاوضه معهم، أن يتفاوضوا مع التتار حتى لا يلاقوا نفس مصير بخارى!!!
إلا أن هناك مَن رفض وكان قراره مقاتلة هذا العدو، فكونوا جيشاً وخرجوا لملاقاة التتار وحدهم، وسط تراجع وتخاذل أغلب أهلهم، بل وأهل السلطة في بلادهم، خارج أسوار سمرقند، كانت البداية، وكان التراجع قرار جيش التتار، وتقدم جيش أهل سمرقند رويداً رويداً، وكانت المكيدة من التتار حتى يبتعد الجيش عن أسوار سمرقند، وما إن ابتعدوا عن أسوار سمرقند حتى التفوا حول الجيش وأبادوهم عن بكرة أبيهم تحت أنظار أهلهم في المدينة الذين ظلوا يرقبونهم حتى انتهت تلك المعركة، وما إن تقدم جيش التتار نحو أسوار سمرقند حتى فتحت أبوابها لهم بإرادة أهلها وواليها، دون أي مقاومة، خوفاً أن ينالهم ما نال أهلهم في بخارى، وأهلهم من سمرقند.
هنا نقطة هامة جداً من فتحت لهم الأسوار هم من قتلوا إخوانهم خارجها، وأي مبرر قد يدفعك لفتح أسوار مدينتك لقتلة أهلك؟ ما كانت الدنيا يوماً إلا شيئاً من اثنين؛ إما عامل يبحث عن سبل، أو متخاذل يبحث عن مبررات، أي مبرر تناولته ألسنة كبار القوم وأصحاب السلطة في سمرقند، حينها كي ينسوا أو يتناسوا دماء أهلهم التي أراقتها أيدي التتار، بل أيضاً ليس هناك أدنى مانع لديهم من أن يضعوا أيديهم في أيدي قتلة إخوانهم، بل وما هي المبررات التي أوجدها الباقون من أهل سمرقند الذين تخاذلوا عن الخروج للدفاع عن مدينتهم، أو حتى الثأر لإخوانهم الذين قتلوا على يد التتار؟!
قد يكون مبررهم الأول أنهم خرجوا عن رأيهم وقاتلوا التتار، مع علمهم مسبقاً بما قد يجري لهم، مع أن الرأي كان لمداهنتهم والعيش تحت لوائهم ما دام في ذلك حفظ لهم ولدمائهم ولأموالهم ولأصحاب السلطة، سلطتهم أيضاً.
قد يكون مبررهم مثلاً: هو ما لهم ومال دماء أريقت في بخارى وما حدث في بخارى! أهم من قتلوا التجار الستة؟ مَن المسؤول عن تلك المأساة والي بخارى الذي أمر بقتلهم أم أهل سمرقند البسطاء؟
جدير بالذكر أن والي بخارى بالفعل قتل ستة من التجار قادمين من منغوليا التي تقع تحت حكم جنكيز خان، وهو الأمر الذي استدعاه إلى القيام بحملة ضد بخارى وواليها هناك، وجدير بالذكر أيضاً أن والي بخارى استأثر بالجهاد وصد هذه الحملة التي وإن كانت بالفعل ثأراً لأجل التجار الستة لاكتفت ببخارى وما فعلته بأهلها، وما تقدمت شبراً واحداً بعد ذلك، وهذا ما يؤكد القول بأن التجار الستة لم يكونوا في الأصل إلا جواسيس لجنكيز خان، ولهذا تم قتلهم، فظاهر الأمور ليس دائماً هو ذات باطنه أو حقيقته، فقد رفض محمد بن خوارزم شاه وقتها إنذارات جنكيز خان، وطالبه والي بخارى بأن يحاكم في دائرة حكمه وسلطته، بل أيده في ما فعل، وانتهى أمر والي بخارى بل وبخارى أيضاً، والآن تقف جيوش جنكيز خان على أبواب سمرقند، ومن تخاذل مرة لا تنتظر منه شيئاً بعد، فقد كان القرار بفتح الأسوار، وخرج والي سمرقند لمقابلة قائد التتار، وطلب قائد جيش التتار أن يقابل علية قومه، بل وأهل السلطة والثروة في سمرقند جميعهم، بعد أن طمأن والي سمرقند أنه سيكون من المقربين إليه.
إلى هنا الكل في نشوة بأنهم سالمون، ويحمدون الله على اتخاذهم القرار الصحيح ووقوفهم في الجانب الآمن، وأن قرارهم بالفعل كان مجدياً في إبقائهم في أمان إلى الآن، بعد أن كان الموت نصيب مَن قرروا المقاومة، وكانت السلامة نصيب أصحاب قرار المداهنة، وقفت سمرقند جميعها أمام قائد التتار، وتقدم علية القوم لتقديم التحية إلى القائد، وكبار التجار من بعدهم، وما إن تعرف القائد على جميعهم، حتى أمر جنوده بالقبض عليهم وقتلهم، ومن ثم أشاع القتل والنهب في المدينة كلها، وأصبحت سمرقند كبخارى، وذاق أهل سمرقند ما ذاقه أهل بخارى، ولم يختلف الحال كثيراً في سمرقند عن بخارى، إلا أن أهل بخارى قاتلوا وقتلوا، وأهل سمرقند استسلموا وقتلوا أيضاً، ولم يبق أمامهم إلا أورجندة لاقتحامها، ولكن يفصلهم النهر فقط عنها، ومن أمام النهر تبدأ حكاية أخرى.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.