تُعدّ عودة الألعاب الأولمبية إلى باريس في سنة 2024 بعد مرور قرن من تنظيم نسختي 1900 و1924 مناسبة بارزة في تاريخ الرياضة العالمية.
احتفاءاً بهذه الحدث، تمّ إدخال التمثال الشمعي لبيار دي كوبرتان إلى متحف غريفين الشهير في حزيران/يونيو 2024، تكريماً لمؤسس الألعاب الأولمبية الحديثة.
ومع ذلك، أثارت هذه المناسبة جدلاً، حيث انتقدت عائلة دو كوبرتان اللجنة المنظمة لألعاب 2024، مشيرةً إلى نقص التقدير الكافي للبارون الفرنسي بيار دو كوبرتان، الذي يُنظر إليه بشكل متباين بين من يعتبره إنسانياً وصاحب رؤية ومن يصفه بالرجعي المتحيّز ضد النساء، وهو ما يبقيه شخصيةً معقّدةً ومثيرةً للجدل في تاريخ الرياضة.
بيار دي كوبرتان مؤسس الألعاب الأولمبية
وُلد بيار دي كوبرتان في 1 يناير/كانون الثاني 1863 بباريس في فرنسا، وتوفيّ في 2 سبتمبر/أيلول عام 1937 في مدينة جنيف بسويسرا. وكان بارون مدرساً فرنسياً وطنياً، لعب دوراً مركزياً في إحياء الألعاب الأولمبية الحديثة في عام 1896، بعد ما يقرب من 1500 عام من اختفائها، حيثُ كان أحد الأعضاء المؤسسين للجنة الأولمبية الدولية (IOC) وشغل منصب رئيسها من عام 1896 إلى عام 1925.
خلفيته ونشاطه
وُلد كوبرتان في الطبقة الأرستقراطية الفرنسية وكان وطنياً ذو نظرة أُممية، تأثّر بالهزائم الفرنسية عام 1871 عقب توقيعها اتفاقية فرانكفورت مع ألمانيا، والتي أثارت العداوة بين الشعبين. وقد استمرت فرنسا في احترام كل بنودها لحين اندلاع الحرب العالمية الأولى عام 1914 وذكرت لنا موسوعة britannica بأنّه كان تقدمياً ومتفائلاً.
خلال العشرينات من عمره، عانى كوبرتان في البحث عن مهنة مُرضية، لكنه كان مصمماً على "ربط اسمه بإصلاح تعليمي عظيم" مستلهماً من تجاربه الدراسية في المدارس العامة البريطانية والكلّيات الأمريكية، بدأ كوبرتان حملات لتحسين المدارس الثانوية، الجامعات العمّالية، والدراسة الشعبية للتاريخ السياسي العالمي. على الرغم من عدم تحقيق هذه الجهود لنجاح كبير وأصبحت منسية إلى حد كبير اليوم، إلا أنها شكلت أساساً لرؤيته اللاحقة.
إسهامه في الألعاب الأولمبية
في عام 1890، التقى كوبرتان بمعلّم اللغة الإنجليزية "ويليام بيني بروكس"، الذي كان قد نظّم الألعاب الأولمبية البريطانية في عام 1866. عرّف بروكس كوبرتان على الجهود التي بذلها هو وآخرون لإحياء الألعاب الأولمبية، وألهم شغف بروكس بالمهرجان الأولمبي الدولي كوبرتان لتبني القضيّة. بفضل هذه الإلهام، اتخذ كوبرتان اتجاهاً جديداً لحياته وأصبح "المُحيي" للألعاب الأولمبية الحديثة، حيث تمكن من تغيير التاريخ الثقافي الحديث على نطاق عالمي.
كانت طاقات بيار دي كوبرتان الاستثنائية، وذوقه الرفيع في الرمزية الثقافية، وعلاقاته الاجتماعية والسياسية، واستعداده لاستنفاد ثروته لتحقيق طموحاته، حاسمة في إطلاق الحركة الأولمبية الحديثة.
خلال المعرض العالمي عام 1889 في باريس، نظّم كوبرتان سلسلةً من المؤتمرات حول التربية البدنية والرياضة الدولية. رغم أن دعوته العامة لإحياء الألعاب الأولمبية خلال أحد هذه المؤتمرات في عام 1892 لم تلقَ استجابة واسعة، إلا أن كوبرتان واصل جهوده. في عام 1894، قرّر مؤتمر السوربون الثاني عقد دورة ألعاب أولمبية دولية في أثينا، وهو قرار كان له تأثير كبير في إحياء الحركة الأولمبية.
بعد نجاح الألعاب الأولمبية في أثينا عام 1896، واجهت الحركة الأولمبية حالات من الإحراج في باريس وسانت لويس بولاية ميسوري، حيث ابتلعت المعارض العالمية اهتمام الجمهور وتدهورت سيطرة اللجنة الأولمبية الدولية ورئيسها كوبرتان.
ومع ذلك، أعادت الألعاب الأولمبية في ستوكهولم عام 1912 الأمور إلى مسارها الصحيح. خلال فترة الحرب العالمية الأولى، أعاد كوبرتان تعزيز الحركة الأولمبية من خلال نقل مقرها الرئيسي إلى لوزان، سويسرا. كما عمل على توضيح أيديولوجية "الأولمبياد الجديدة"، والتي تسعى إلى تحقيق السلام والتواصل بين الثقافات عبر الرياضة الدولية.
بعد دورة الألعاب الأولمبية الناجحة للغاية عام 1924 في باريس، تقاعد كوبرتان مع رئاسة اللجنة الأولمبية الدولية.
هل كان كوبرتان يُعارض مشاركة النساء في الألعاب الأولمبية؟
يُحدّثنا موقع olympics بأنّه في اليوم الذي تقاعد فيه بيار دو كوبرتان من اللجنة الأولمبية الدولية (IOC) في براغ عام 1925 عن عمر يناهز 62 عاماً، ذكّر زملاءه بأن الحركة العالمية العظيمة التي أنشأها كانت مبنية على أخلاقيات شاملة، قائلاً: "إنّ الألعاب الأولمبية العاب عالمية ويجب السماح لجميع الناس بالدخول دون نقاش".
ومع ذلك، على مدى 31 عاماً من تأسيس الألعاب الأولمبية من فكرة ناشئة إلى ظاهرة عالمية، وحتى بعد تقاعده، كان كوبرتان يعارض مشاركة النساء في الألعاب الأولمبية ما جعل نقاد ثقافة الإلغاء يصفونه بأنه كاره للنساء.
وعندما أطلقت أليس ميليات الألعاب الأولمبية للسيدات في باريس في أوائل عشرينيات القرن الماضي، قوبل هذا الاقتراح بمعارضة شديدة من كوبرتان، وقد كان قبل عقد من الزمن قد كتب أن إضافة "أولمبياد نسائي صغير" سيكون عملاً كبيراً للغاية بالنسبة للمنظمين، وأن الأولمبياد النسائي سيكون "غير عملي، وغير مثير للاهتمام، وغير مربح وغير لائق" وقد سبّبت له هذه التصريحات انتقادات شديدة من المؤرخين النسويين، وتعرض لاتهامات بالكراهية ضد النساء.
وعلى الرغم من موقفه العدائي، لم يقف كوبرتان مباشرة في طريق النساء المتنافسات في الألعاب. في الواقع، ترك القرارات للجنة المنظمة في كل مدينة مضيفة. خلال فترة رئاسته للجنة الأولمبية الدولية من باريس 1900 إلى باريس 1924، زاد عدد النساء المشاركات في الألعاب ستة أضعاف، من 22 إلى 135 مُشاركة. خلال هذه الفترة، تنافست النساء في عدة فعاليات مثل الغولف، والرماية، والفروسية، والتنس، والغوص، والإبحار، بالإضافة إلى المبارزة، والسباحة، والتزلج على الجليد.
بالتوازي مع الألعاب، تبنى كوبرتان إدراج الفنانات والكاتبات والموسيقيات في مسابقات الفنون الأولمبية. بدأ البرنامج تحت رئاسته في عام 1912، ونما بشكل مطرد، حيث تنافست 148 امرأة وفازت بـ 10 ميداليات بحلول عام 1948.
نهاية فترة رئاسة كوبرتان وتدهور حياته الشخصية
بعد النجاح الباهر لدورة الألعاب الأولمبية عام 1924 في باريس، تقاعد بيار دو كوبرتان من رئاسة اللجنة الأولمبية الدولية. اتسمت سنواته الأخيرة بالعزلة، والبؤس، والمآسي العائلية، بينما أصبحت الألعاب الأولمبية، كما يتضح من لوس أنجلوس 1932 وبرلين 1936، تقترب بشكل متزايد من مركز الشؤون العالمية.
توفي كوبرتان في جنيف عام 1937، ودفن في لوزان. وفقاً لوصيّته، تم إخراج قلبه من جثته ووقع دفنه في لوحة تذكارية مجاورة لأطلال مدينة أولمبيا حيثُ موقع الألعاب القديمة، بينما دُفن جسده في لوزان السويسرية.