منذ القرن التاسع عشر وحتى منتصف القرن العشرين، خاض المغاربة سلسلة من الحروب والصراعات الدامية ضد القوى الاستعمارية من أجل استعادة استقلالهم والتخلص من الهيمنة الأجنبية.
ومن بين هذه الحروب التي أثرت بشكل كبير على المشهد السياسي والاجتماعي في المغرب كانت حرب الريف التي اندلعت في فترة ما بين عامي 1920 و1927، التي نشأت بين السكان المحليين لمنطقة جبال الريف والقوات الإسبانية والفرنسية.
ومثلت هذه الحرب مقاومة شديدة الحدة لسكان الريف المغربي ضد الاستعمار الإسباني الذي كان يسيطر على المنطقة بقوة. قادها الأمير عبد الكريم الخطاب، الذي نجح في توحيد قبائل جبال الريف لمواجهة القوات الإسبانية المحتلة، وكان الهدف من هذه المقاومة هو استعادة السيادة المحلية وحماية الثقافة والهوية الريفية من التهديدات الخارجية.
فما هي الأسباب الرئيسية التي دفعت الريفيين المغاربة للتمرد على الاستعمار الإسباني؟ وما هي التكتيكات العسكرية التي استخدمها الريفيون ضد القوات الإسبانية؟ ومن كان الشخص الذي قاد المقاومة الريفية ضدّ القوات الإسبانية؟
الريف المغربي والاحتلال الفرنسي والإسباني
وفقاً لموسوعة britannica بدأت الحماية الفرنسية في المغرب في مارس 1912 نتيجة لانهيار النظام السياسي المغربي بعد عقود من التدخل الأوروبي في الشؤون المغربية.
وفي نوفمبر من نفس العام، وبسبب الإصرار البريطاني على إنشاء منطقة عازلة بين شمال أفريقيا الفرنسية والقاعدة الاستراتيجية البريطانية في جبل طارق، منحت فرنسا إسبانيا محمية "إيجار من الباطن" تبلغ مساحتها 7700 ميل مربع (20 ألف كيلومتر مربع) على طول ساحل المغرب على البحر الأبيض المتوسط. كانت هذه المنطقة متجاورة مع جيبي مليلية وسبتة التابعين لإسبانيا، وتعكس رغبة إسبانيا في إعادة ترسيخ وجودها الاستعماري بعد الخسائر المذلة التي تكبدتها في الحرب الإسبانية الأمريكية عام 1898.
التحديات التي واجهتها إسبانيا في المحمية
لسوء الحظ بالنسبة لإسبانيا، كان جزء كبير من المحمية عبارة عن منطقة ريفية راكدة يتعذر الوصول إليها ذات تضاريس جبلية صعبة تسكنها عشرات المجموعات البربرية المعروفة مجتمعة باسم الريف.
وعلى الرغم من أن هذه المجموعات كانت خاضعة اسمياً لسلطة السلطان المغربي، إلا أن معظمها حافظ على قدر كبير من الحكم الذاتي المحلي وكان يعارض تماماً أن يحكمها المسيحيون الإسبان.
سلمت الحكومة الإسبانية إدارة الريف المغربي إلى الجيش الإسباني، الذي كان من المشكوك فيه ما إذا كان يمتلك الموارد والقيادة والتدريب والروح المعنوية اللازمة لتنفيذ المهمّة بفعالية. وفي الواقع، فإن ست سنوات من الجهود العسكرية اللاحقة تركت حوالي ثلاثة أرباع المحمية "غير مسالمة".
تكثيف الجهود الإسبانية للسيطرة على المحمية
بسبب الإحباط من هذا الوضع، سمحت الحكومة الإسبانية في عام 1919 للمفوض السامي للمحمية، الجنرال داماسو بيرينجير، بتكثيف الجهود لإخضاع المزيد من المحمية للسيطرة الإسبانية.
كان بيرينجير، المتمركز في عاصمة المحمية تطوان في الجزء الغربي من المنطقة، يتلقى المساعدة من مرؤوسه الأكثر عدوانية، الجنرال مانويل فرنانديز سيلفستر. كان تركيز بيرينجير الأساسي هو تحقيق تقدم حذر في منطقة يبالا الجبلية واحتلال مدينة شفشاون. بينما كان الهدف الرئيسي لفرنانديز سيلفستر هو تأمين خليج الحسيمة الاستراتيجي في وسط الريف في أسرع وقت ممكن وتهدئة بني أورياجيل، المجموعة الأكثر أهمية وعدوانية واستقلالية في الريف.
ثورة محمد بن عبد الكريم الخطابي ضد الاحتلال الإسباني
بداية المقاومة الشعبية في الريف
في عام 1920، وفي خضم محاولات الاحتلال الإسباني لتعزيز سيطرته بإنزال جيش في منطقة الحسيمة، قاد محمد بن عبد الكريم الخطابي ثورة شعبية في الريف، محققاً هزائم متتالية للقوات الإسبانية.
بخبرته العسكرية ومعرفته العميقة بالجغرافيا المحلية، أدار الخطابي مقاومة فعالة، مستخدماً تكتيكات غير تقليدية مثل التسلل الصامت للمعسكرات الإسبانية للاستيلاء على الأسلحة، والهجوم المباغت على الأعداء المنهكين.
رد فعل الريف وتوسيع التمرد
- التحديات في حشد الدعم
كان رد فعل الريفيين المغاربة في ثورة الريف المغربي مفاجئاً ومبهراً، تلاه جهد لتوسيع التمرد إلى أجزاء أخرى من الريف الأوسط وما وراءه. لم يحدث ذلك على الفور، إذ لم يكن حشد الدعم من الجماعات الأخرى والنخب السياسية والدينية سهلاً دائماً على عبد الكريم. في كثير من الأحيان، كان عليه أن يجمع بين التهديد باستخدام القوة أو استخدامها بالفعل وبين مناشدة الحساسيات الدينية وكراهية الأجانب.
مواجهة الجيش الإسباني
أعاد الجيش الإسباني تجميع صفوفه على الجبهة الشرقية، ومع ذلك، كانت الجهود الإسبانية مقيدة بشكل خطير بسبب سياسة الحكومة المتناقضة ونقص الدعم الشعبي لما أصبح حرباً استعمارية لا تحظى بشعبية. وعلى الرغم من مقاومة عبد الكريم المستمرة وإعلان جمهورية الريف المغربي عام 1923، ظل الوضع على حاله من الجمود.
الانسحاب الإسباني وتقدم عبد الكريم
- إخلاء القوات الإسبانية
استمر هذا الوضع حتى سبتمبر 1924، عندما قررت الحكومة الإسبانية، في عهد الدكتاتور ميغيل بريمو دي ريفيرا، الذي تم تنصيبه مؤخراً، إجلاء آلاف القوات من مئات المواقع المعزولة في الجزء الغربي من المحمية إلى خط محصن بطول 10 كيلومترات جنوب تطوان.
في طريقها إلى مليلية، استخدمت القوات الإسبانية القطارات في مدريد، ما دفع عبد الكريم إلى النظر إلى المحمية الفرنسية للحصول على الدعم. استجابت فرنسا بالتقليل من إمداداته المهربة، مما أجبر عبد الكريم على توجيه هجوم في 12 أبريل 1925، أسفر عن سقوط العديد من الخسائر الفرنسية وتعريض مدن مثل فاس وتازة للخطر.
تسبب هذا الإخلاء، الذي كلف الجيش الإسباني ما لا يقل عن 2000 قتيل ومفقود، في استياء كبير بين الرتب العليا في الجيش الاستعماري الإسباني. كان فرانسيسكو فرانكو، الذي كان حينها قائداً للفيلق الأجنبي الإسباني، أحد أكثر من يُطلق عليهم اسم الضباط الأفارقة. يعكس الإخلاء أيضاً السأم العام من الحرب بين جزء كبير من الشعب الإسباني، فضلاً عن إدراك أن الصراع كان يكلف الخزانة الإسبانية أكثر مما تستطيع تحمله.
تأثيرات الصراع الدامي على الإسبان والفرنسيين
بين يونيو 1925، اجتمع الوفدين الفرنسي والإسباني للتفاوض على سلسلة من الاتفاقيات، بما في ذلك ميثاق عسكري ضد جمهورية الريف.
في أواخر صيف 1925، حدث تنسيق بين القوات الفرنسية والإسبانية، ما أدى إلى إنزال برمائي لقوات إسبانية كبيرة، وسيطرة الفرنسيين على مناطق إستراتيجية. بحلول مارس 1926، بدأت محادثات سلام قصيرة ألغيت بسرعة بالهجمات المتجددة من الفرنسيين والإسبان.
استسلم عبد الكريم في مايو 1926، مع الوعد بحماية له ولأسرته، لكنهم نُفِّوا إلى جزيرة ريونيون، واستمرت الحملة ضد جيوب المقاومة حتى يوليو 1927.
وكان لثورة الريف المغربي تأثيرات كبيرة على الإسبانيين والفرنسيين على حد سواء، وكانت الخسائر البشرية والمالية ضخمة بالنسبة للطرفين. حسب الأرقام الرسمية، فقد بلغت خسائر الإسبان حوالي 43500 جندي بين قتيل ومفقود أو جريح، ما كانت تعتبر مبلغاً هائلاً بالنسبة للاقتصاد الإسباني في ذلك الوقت.
أما الفرنسيون، فقد واجهوا خسائر أقل بكثير من الإسبان في ثورة الريف المغربي، حيث بلغ عدد القتلى والمفقودين والجرحى حوالي 18000 شخص. أما بالنسبة لسكان الريف، فكان التحديد الدقيق للخسائر صعباً، لكن تقديرات تشير إلى وجود حوالي 30000 ضحية، من بينهم حوالي 10000 قتيل، معظمهم من المدنيين الذين عانوا من استهداف القوات الإسبانية بالقنابل والغازات السامة.