عبر التاريخ، كانت أبواب المدن أكثر من مجرد نقاط عبور، فهي تروي قصص الحضارات، الحروب، والتحولات الاجتماعية. في قلب المغرب، يقف باب المحروق شامخاً كرمز لمدينة فاس العريقة، حاضناً بين جدرانه آلاف السنين من التاريخ.
استكشاف هذا الباب يقودنا إلى رحلة عبر الزمن، حيث العراقة والتحولات الدراماتيكية التي شهدتها المدينة، إلا أنه يعتبر أرعب باب في المدينة القديمة في فاس، وذلك بسبب القصص الدموية التي جرت على بابه حتى تحول اسمه من باب الشريعة إلى باب المحروق.
التاريخ العريق لباب المحروق بفاس
يعود تأسيس باب المحروق إلى العام 1204، على يد الملك الموحدي أبو عبد الله محمد الناصر، ليشكل جزءاً من الأسوار العتيدة التي أحاطت بفاس. لكن قصته تبدأ من الحصار الذي شنه عبد المؤمن في عام 1145، حيث استخدم تكتيكاً مائياً ذكياً لهدم أسوار المدينة وبواباتها، مما أدى إلى كارثة حقيقية.
لكن روح فاس لم تخبُ، فتحت إشراف محمد الناصر، شيدت الأسوار والبوابات من جديد، لتعود فاس أقوى وأكثر تحصيناً. باب المحروق الذي كان يعرف أيضاً بباب الشريعة، حمل في طياته قصصاً من العدل والثورة، مشهداً لأحداث تاريخية مؤثرة، كان أبرزها تعذيب ثوار أثاروا استياء الحكام.
عبر السنين، شهد باب الشريعة العديد من الأحداث الدرامية، إذ ورد عن بعض الباحثين، أن هذا الباب كان يخرج منه مؤسسه الخليفة محمد الناصر الموحدي إلى قصبة الشراردة وظهر الخميس، وأطلق عليه الاسم الغالب حالياً وهو "باب المحروق" بعد ثورة عبيد الله الفاطمي العبيدي، الذي كان قد دعا لنفسه بالإمارة في منطقة وزان، فنفذ فيه حكم الإعدام وسِيق إلى فاس، وتم صلبه لمدة خمسة عشر يوماً، ثم علق رأسه على الباب لمدة طويلة كي يشاهدها الحشد.
وشهد هذا الباب مشاهد مؤلمة وأحداثاً جسيمة وتصفيات جسدية فظيعة، طالت عدداً من رجال الدولة، وعلقت تحت قوسه عدد من جثث ورؤوس كبار العلماء والقضاة والوزراء، ومن أشهرهم الأديب الوزير لسان الدين بن الخطيب، الذي اتهم بالزندقة، فأخرجه أعداؤه من قبره وأحرقوه قرب هذا الباب سنة 776هـ، 1374م.
تسببت حادثة إحراق جثة لسان الدين بن الخطيب في باب المحروق في تذمر ساكنة مدينة فاس، وبعد هذه الواقعة، صار الباب يرمز فعلاً لاسمه، وصار سكان المدينة يربطون الباب بحادثة إحراق ابن الخطيب.
فاس، التي تغيرت بتغير العصور، رأت في باب المحروق شاهداً على التحول من مدينة تغمرها الأساطير والحكايات إلى مركز حضاري يجذب الزوار من كل حدب وصوب. اليوم، يعد باب المحروق بوابة لاكتشاف الجمال الأثري والتاريخي لفاس، حيث القديم يلتقي بالجديد في تناغم يخطف الأنفاس.
الإرث الحي لباب الشريعة
في ظل التطورات العمرانية والتوسع الذي شهدته فاس، بقي باب المحروق كنقطة تاريخية تعكس العمق الثقافي للمدينة. يأتي الزوار من جميع أنحاء العالم ليس فقط لمشاهدة جماله المعماري، بل ليشعروا بالقصص التي عاشها الباب عبر القرون.
يروي باب المحروق قصة مدينة لم تستسلم للغزاة ولم تفقد روحها في وجه التحديات. من خلال هذه الزيارات، يتعرف الجمهور على جزء حي من تاريخ المغرب، ويستشعرون الأهمية الكبيرة لحفظ هذه الآثار كجزء لا يتجزأ من الهوية الوطنية والثقافية.
مع استمرار فاس في التطور كمدينة عالمية تجمع بين العراقة والحداثة، يظل باب المحروق رمزاً للصمود والتاريخ الغني. المبادرات المستقبلية لترميم وصيانة هذا الباب والمناطق المحيطة به تؤكد على الدور الحيوي الذي تلعبه الآثار في تعزيز الوعي الثقافي والسياحي.
من خلال الجهود المبذولة للحفاظ على باب المحروق وتقديمه كشاهد على التاريخ المجيد لفاس، يتم تعزيز الفهم والتقدير للتراث الحضاري للمغرب.
يعد باب المحروق أكثر من مجرد معلم تاريخي في فاس؛ إنه رمز للتراث، الثقافة، والقصص التي شكلت الحضارة المغربية. مع كل زائر يمر من خلاله، تُروى قصة جديدة، وتُضاف طبقة أخرى إلى النسيج الغني لتاريخ فاس.
يعتبر سكان مدينة فاس باب المحروق شاهداً على الماضي، وأيضاً جسراً نحو المستقبل، حيث يستمر في إلهام الأجيال القادمة ويعزز من مكانة فاس كوجهة عالمية لاكتشاف الجمال الأثري والثقافي.