نشبت "معركة الكرامة" على الأراضي الأردنية يوم 21 مارس/آذار 1968، بين جيش الاحتلال الإسرائيلي من جهة، والجيش الأردني والفصائل الفلسطينية من جهة أخرى، وانتهت بانتصار الطرف العربي ضدّ جيش الاحتلال الإسرائيلي.
وقد وقعت هذه المعركة الأخيرة التي اتّحد فيها الجيش الأردني مع المقاومة الفلسطينية وحققا النصر التاريخي، بعد مضي أقل من عام على وقوع "النكسة" واحتلال الضفة الغربية وقطاع غزة وجنوب لبنان وهضبة الجولان السورية، حيثُ استمرت المعركة لمدة تقارب 15 ساعة فقط، ولكنها مثّلت أول نصرٍ للعرب وأول هزيمة فادحة لـ"جيش إسرائيل الذي لا يُقهر"، وفقاً للسردية العربية.
لماذا سمّيت بمعركة الكرامة؟
وفقاً لموقع ENCYCLOPEDIA OF THE PALESTINE أُطلقت تسمية "معركة الكرامة" على هذه الحرب نسبةً إلى منطقة الكرامة التي شهدت الاشتباك بين جيش الاحتلال الإسرائيلي من جهة والفدائيين الفلسطينيين والجيش الأردني من جهة أخرى في 21 مارس/آذار عام 1968.
وتطلّ "منطقة الكرامة" على نهر الأردن في الجزء الشرقي من غور الأردن، وهي تمتاز بأراضيها الزراعية المنخفضة السهلية، وتشتهر ببساتينها الكبيرة وبخضرتها الدائمة.
إسرائيل تعلن "القضاء على الفدائيين الفلسطينيين" والجيش الأردني يتصدّى
قبل أن تحتل إسرائيل الضفة الغربية من نهر الأردن، التي كانت تحت سيطرة المملكة الأردنية الهاشمية بعد حرب عام 1948 التي أبقت على الضفة الغربية، بما في ذلك القدس الشريف؛ توترت العلاقة بين الجانبين.
كان الأردن في تلك الحقبة مأوى للمقاومة الفلسطينية، وكانت الهجمات الإسرائيلية المنتقمة على الفدائيين في الأراضي الأردنية تؤدي أحياناً إلى اشتباكات بين القوات الإسرائيلية والجيش الأردني.
وقد أدّت هذه الهجمات المنظّمة للفدائيين إلى تصاعد الصراعات بين الجيشين الأردني والإسرائيلي على طول نهر الأردن، حيث شهدت هذه الفترة أكثر من 44 اشتباكاً بالمدفعية والقصف الجوي والدبابات والأسلحة المختلفة منذ يونيو/حزيران 1967 حتى معركة الكرامة، بحسب ما ذكره موقع encyclopedia.com.
وقد انتهى الصراع الأخير بتطويق منطقة الكرامة ومطالبة الفدائيين الفلسطينيين والأردنيين بالمغادرة، لتجنب المزيد من الهجمات الإسرائيلية على الأراضي الأردنية. لكن بقي الفدائيون من "فتح" و"الجبهة الشعبية" في الكرامة، وانضم إليهم فيما بعد مقاتلون من قوات التحرير الشعبية، التي تأسست حديثاً من جيش التحرير الفلسطيني.
وفي فبراير/شباط 1968، بدأت إسرائيل بتجميع قواتها على نهر الأردن بهدف التحرك ضد الفدائيين في منطقة الكرامة، غير أنّ عدم اتخاذ الجيش الإسرائيلي أي إجراء لإخفاء تحركاته، مكّن القوات الأردنية والفلسطينية من إعداد دفاعاتهم لخوض معركة الكرامة.
نصر للعرب وهزيمة لـ"الجيش الذي لا يُقهر"
هدف القضاء على الفدائيين الفلسطينيين والأردنيين يبوء بالفشل
وفي الخامسة والنصف فجراً من صباح يوم الخميس 21 مارس/آذار عام 1968، بدأت القوات الإسرائيلية هجوماً عنيفاً على الأراضي الأردنية، مدعومة بالدبابات والطائرات والقوات المشاة والمظليين، من ثلاثة محاور رئيسية: جسر سويمة وجسر الملك حسين وجسر داميا.
كما سبق أن قامت القوات الإسرائيلية باتخاذ إجراءات واسعة النطاق من النواحي النفسية والسياسية والعسكرية، استعداداً لهذا الهجوم تجاه أي تطوّرات محتملة يمكن أن تنتج عن عملياتها شرق نهر الأردن.
وفي 21 مارس/آذار 1968، نفذت القوات الإسرائيلية هجوماً شاملاً على الضفة الشرقية لنهر الأردن، امتد من جسر الأمير محمد شمالاً حتى جنوب البحر الميت، معلنةً أن هدفها من الهجوم الذي شنّته كان "القضاء على مواقع الفدائيين الفلسطينيين في مخيم الكرامة".
ولتنفيذ خطّة المعركة، خصّصت إسرائيل أربعة ألوية، منهم لواءان مدرعان ولواء المظليين 35، بالإضافة إلى لواء المشاة 80، مع دعم وحدات من المدفعية الميدانية، ووحدات هندسية عسكرية، وتغطية جوية بأربعة أسراب نقالة، ومروحيات لنقل كتيبتيْ مشاة بمعداتهما، بإجمالي 15 ألف جندي.
أمّا من الجانب الفلسطيني الأردني، ركّزت وحدات "فتح" على مراقبة حركة القوات الإسرائيلية، ودرست استراتيجيات التعامل معها، بما يتطلب المواجهة أو الانسحاب من المواقع المستهدفة من قبل العدو.
ثمّ قامت وحدات "فتح" بتنفيذ ضرباتها بحسب مبادئ الحرب الشعبية، بينما أعدت القيادة الأردنية نفسها لمواجهة العدو، ونشرت قواتها في حالة استنفار تام، متوقعة التطورات المحتملة.
وفي كتابه "مهنتي كملك"، وصف الملك الراحل الحسين بن طلال أحداث المعركة بأنها "دموية"، مشيراً إلى الخسائر البشرية وتدمير المعدات، مُشيداً بقدرات الفدائيين الفلسطينيين والأردنيين في المعركة.
إسرائيل تطالب بوقف إطلاق النار
ووفقاً للرواية الأردنية، تقدمت إسرائيل بطلب لوقف إطلاق النار في الساعة الحادية عشرة والنصف صباحاً من يوم المعركة، في حين أصرّ الملك الأردني الحسين بن طلال على عدم وقف إطلاق النار "ما لم يتبقّ جندي إسرائيلي واحد على الضفة الشرقية لنهر الأردن".
وبدأت القوات الإسرائيلية بالانسحاب حوالي الساعة الثانية ظهراً، بعد أن قام رئيس أركان الجيش الأردني، عامر خماش، بمحاصرة القوات الإسرائيلية حتى الساعة السادسة والنصف مساءً، دون الشروع في هجومها خوفاً من تصعيد الوضع.
وانتهت المعركة بانسحاب الجيش الإسرائيلي بعد 15 ساعة من القتال العنيف، وكلفت هذه العملية الجيش الإسرائيلي 250 قتيلاً و450 جريحاً، ودمرت العديد من الدبابات والآليات و7 طائرات مقاتلة، مقابل 86 جندياً أردنياً قتلوا و108 جرحى، حسب بيانات الجيش الأردني.
على الجانب الآخر، تقدر إسرائيل خسائرها بنحو 30 جندياً وعشرات الجرحى، ودمرت العديد من الآليات والدبابات التي استولى عليها الجيش الأردني، بينما تراوحت التقديرات حول خسائر المقاتلين الفلسطينيين بنحو 100 مقاتل وعدد من الجرحى والأسرى، وفقاً للرواية الأردنية.
قائد معركة الكرامة
مشهور حديثة الجازي
قائد معركة الكرامة هو الفريق الركن مشهور حديثة الجازي، ولد في محافظة معان عام 1928م، وفي عام 1946م التحق بالجناح الثقافي في العاصمة عمان، وشارك بعدها بدورة تدريبية طلابية عسكرية، إذ كان يحمل الرقم 505، وحصل على درجة البكالوريوس في العلوم العسكرية من كلية الأركان الباكستانية عام 1958م.
كما شارك بعدد من الدورات التدريبية في الولايات المتحدة الأمريكية، ثمّ انضمّ بعد تخرّجه لكتيبة المشاة الثانية عام 1962م، وأصبح قائد لواء، وتولى بعدها منصب قائد اللواء الأول، كما عُيّن الجازي في عام 1970م رئيساً لأركان القوات المسلحة الأردنية، وعُيّن بعدها مستشاراً خاصاً للملك الحسين بن طلال.
وذكر مشهور حديثة الجازي في حديثه عن "معركة الكرامة" أنّ المرحلة الفاصلة بين حرب 67 ومعركة 68 كانت تشهد اشتباكاتٍ متقطعةً بين الجيشين الأردني والإسرائيلي، وأنَّ الجيش الأردني كان يساند عمليات "الفدائيين" ويوفر "غطاءً نارياً" لأولئك العائدين من الضفة الغربية المحتلة بعد تنفيذهم عمليات عسكرية.
ويضيف الجازي في شهاداته التي قدمها خلال حياته، أن الجيش الأردني أبلغ المنظمات الفلسطينية بهجوم إسرائيلي وشيك، وتمَّ التنسيق بين الجانبين استعداداً للمعركة.
رموز معركة الكرامة
ولا تزال الذاكرة الفلسطينية الأردنية تحتفظ إلى اليوم بالعديد من الشخصيات التي أثرت بشكل كبير في مجريات "حرب الكرامة"، من ضمنهم:
- الملك الحسين بن طلال، ملك الأردن، الذي ولد في عام 1935 وتوفي في عام 1999.
- عامر خماش، رئيس أركان الجيش الأردني خلال المعركة، ولد في عام 1924 وتوفي في عام 2010
- ياسر عرفات، القائد العام لحركة فتح، ولد في عام 1929 وتوفي في عام 2004.
- خليل الوزير "أبو جهاد"، عضو في اللجنة المركزية لحركة فتح وأحد قادة المعركة، ولد في عام 1935 وتوفي في عام 1988.
- صلاح خلف "أبو إياد"، عضو في اللجنة المركزية لحركة فتح وأحد قادة المعركة، ولد في عام 1933 وتوفي في عام 1991.
- أحمد جبريل، الأمين العام للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وأحد قادة المعركة، ولد في عام 1938 وتوفي في عام 2021.
- بهجت أبو غربية، عضو في قيادة الكفاح المسلح وأحد شهود المعركة، ولد في عام 1916 وتوفي في عام 2012.
حرب الكرامة.. النصر الذي لم يتكرّر بعد
رغم تحقيق إسرائيل هدفها المعلن للهجوم، المُتمثّل في تدمير قاعدة الفدائيين في منطقة الكرامة، فإن الكثير من المؤرخين اعتبروا معركة الكرامة فشلاً لإسرائيل ونصراً -وإن كان معنوياً- للعالم العربي، وللفلسطينيين على وجه الخصوص.
حيثُ كانت هذه المرة الأولى منذ حرب يونيو/حزيران 1967 التي تم فيها تجاوز قوة إسرائيلية بهذا الحجم لحدود عام 1967، وقد مثّلت هذه المعركة نقطة تحوّل في تاريخ حركة فتح وللمقاومة الفلسطينية بشكل عام، حيثُ زادت إثرها طلبات التطوع للمشاركة في صفوف المقاومة، خاصةً من قِبل المثقفين وحملة الشهادات الجامعية، كما شهدت التظاهرات الكبيرة استقبالاً حاراً للشهداء في المدن العربية التي دفنوا فيها، ما أدى إلى ازدياد الاهتمام من قِبل الصحافة الأجنبية بالمقاومة الفلسطينية وحركتها.
"معركة الكرامة نقطة تحول في تاريخ العسكرية العربية"
وقال رئيس الأركان الإسرائيلي في ذلك الوقت، حاييم بارليف، في تصريح له: "خسرنا في الهجوم الأخير على الأردن آليات عسكرية بنسبة 3 أضعاف ما فقدناه في حرب يونيو/حزيران".
وأضاف: "عملية الكرامة كانت فريدة من نوعها، ولم يتعرض الشعب الإسرائيلي لهذا النوع من العمليات من قبل، جميع العمليات التي قمنا بها أدت إلى نصر حاسم لقواتنا".
وعلق أحد كبار القادة العسكريين العالميين، رئيس أركان القوات المسلحة في الاتحاد السوفييتي في ذلك الوقت، المارشال جريشكو، قائلاً: "شكّلت معركة الكرامة نقطة تحول في تاريخ العسكرية العربية".
أما رئيس أركان الجيش الأردني في ذلك الوقت، الفريق مشهور الجازي، فأكد قائلاً: "بكل فخر، استطعت تجاوز الخلاف الذي كان موجوداً بين الفدائيين والسلطة الأردنية، قاتلنا كقوة موحدة تحت شعار: 'كل البنادق ضد إسرائيل'، وكانت النتيجة مشرفة".
أمّا على المستوى العربي، فقد أعادت معركة الكرامة جزءاً من الكرامة التي فقدها العرب في حرب يونيو/حزيران 1967، حيث فشلت إسرائيل في تحقيق أهدافها العسكرية والاستراتيجية في رفع معنويات الإسرائيليين وضاعفت زيادة خوفهم وعزلتهم.
وكانت "معركة الكرامة"، المعركة الأخيرة التي اتحد فيها الجيش الأردني مع المقاومة الفلسطينية وحققا فيها النصر التاريخي. لكن الواقع اليوم مختلف، حيث تحاصر الجيوش المقاومة وتعترض طريقها، كما نشهده في قطاع غزة والضفة الغربية التي تسيطر عليها قوات الاحتلال وتقيّدها باتفاقيات أوسلو، وتعترض حتى على إقامة المقاومة الشعبية للتظاهرات والاحتجاجات.