هذه المرة قصر الباشا.. في إطار استهدافها للموروث الثقافي لفلسطين، منذ بدء العدوان على قطاع غزة في السابع من تشرين الأول/أكتوبر الماضي.. قامت قوات الاحتلال الإسرائيلي بشنّ قصف عمدي على العديد من المعالم التاريخية أبرزها قصر الباشا، آخر القصور المتبقية من آثار غزة القديمة، والواقع بحيّ الدرج شرق المدينة، ما أدّى إلى هدم أجزاء كبيرة منه وهو خراب لم يشهده منذ تشييده الذي يعود إلى ما يزيد على سبعة قرون.
تعدّد تسميات القصر عبر التاريخ
القصر في عهد العثمانيين 1530-1681م
وفق كتاب وقفية موسى باشا آل رضوان سنة 1081 هـ مرّت على القصر عدّة مسميات، أوّلها كان في العهد العثماني منذ عام 1516، بعد أن أتمّ السلطان سليم فتح مصر وبلاد الشام، حيث لقّب العثمانيون القصر آنذاك بقصر"آل رضوان"، نسبة إلى عائلة "آل رضوان"، وهي الأسرة التى حظيت بحكم غزّة ومعظم فلسطين تحديداً بين 1530-1681م.
وتعدّ عائلة "آل رضوان" أبرز عائلات الباشا في فلسطين، حيث شغل أبناؤها باستمرار كحكام بالوراثة (حكام المقاطعات) في السنجق (منطقة إقليمية) لمدّة قرن ونصف من الزمان، وكانت فترة الرضوان في غزة تُعرف بالعصر الذهبي الأخير للمدينة.
وفق غالبية المؤرخين، سُمي القصر على اسم رضوان باشا الذي تولّى حكم غزة عام 1570 حتى خلفه ابنه أحمد باشا بن رضوان ليتربّع على سدّة العرش لمدة تفوق 30 عاماً، لتصبح غزة إثر ذلك معقلاً رئيسياً للسلالة، كما يذكر أنه كان سنجق القدس ونابلس تحت إدارة أحمد باشا بشكل متقطع طوال فترة حكمه.
دار السعادة وقلعة نابليون
يشاع عن القصر أيضاً أنّه حمل في فترة من الزمان اسم "دار السعادة"، كما يقال إنّه أُطلقت عليه تسمية "قلعة نابليون" في الفترة التي استراح فيها نابليون خلال حملته على بلاد الشام، حيث لبث داخل القصر 3 أيام فقط، ليواصل سيره بعد طريقه نحو أسوار عكا.
قصر الباشا.. من الانتداب البريطاني إلى الاحتلال الإسرائيلي
في عهد الانتداب البريطاني على فلسطين (1917-1948)، استخدم القصر كمركز للشرطة يقع فيه توقيف الرجال والنساء على حدّ سواء في غرفتين صغيرتين في ردهاته تحت الأرض.
وقد تعرّض القصر خلال فترة احتلال البريطانيين لفلسطين للتدمير المتعمّد على غرار معظم البيوت الأثرية بمدينة غزة؛ ما نتج عنه تقلّص مساحته.
إثر صدور قرار تقسيم فلسطين (1947)، وخضوع قطاع غزة للإدارة المصرية (1948-1967)، حُوّل القصر إلى مدرسة للفتيات بأمر من الملك فاروق، وصار يعرف بمدرسة "الأميرة فريال" -وهي أخت الملك فاروق- وبعد انتهاء (ثورة 23 يوليو 1952م)؛ أي في عهد الرئيس المصري جمال عبد الناصر، تغير اسم المدرسة إلى مدرسة الزهراء الثانوية للبنات، تيمناً باسم فاطمة الزهراء ابنة الرسول محمد.
ثمّ جاء الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية ليُعاني القصر بسببه من الخراب والتهميش، ولم يقع الالتفات إليه وترميمه سوى بعد تأسيس السلطة الوطنية الفلسطينية تحديداً عام 2005.
وفق ما أفادت به الباحثة في التاريخ والآثار القديمة نريمان
عمارة قصر الباشا
يمزج قصر الباشا بين العمارتين المملوكية والعثمانية ويرجع ذلك لمعاصرته فترة حكم المماليك (1260- 1516) والعثمانيين (1516- 1917).
ووقع تشييد القصر على قطعة أرض تُقدّر مساحتها بـ60 دونماً، إلا أنّها تقلّصت في فترة الانتداب البريطاني لفلسطين جرّاء هدم المباني التاريخية، إلى نحو 600 متر، كما ذكرت وزارة السياحة والآثار.
العمارة الإسلامية في قصر الباشا
أمّا عن عمارة القصر اليوم، فلم يتبقَّ منه سوى جُزأين معماريين مُنفصلَين، وهما الـ"سلاملك"، أي الجزء المخصّص للرجال كما يُطلق عليه العثمانيون، وجزء "الحرملك" الخاصّ بالنساء .
ويعتبر مبنى "السلاملك" متحفاً يجمع عدداً من القطع الأثرية التي تعود إلى الحضارات السابقة التي تتالت على فلسطين، نُقش شعار الأسد بنقوش عربية كتبت فيها عبارة "لا إله إلا الله محمد رسول الله" على جانبي أبوابه.. وهو الرمز الذي اتّخذه السلطان المملوكي الملك الظاهر بيبرس شعاراً لدولته، كما جاء في المصادر التاريخية المتعلّقة بالموضوع.
تتّخذ أبواب القصر من الأعلى شكل القوس، أمّا أسقف المبنيين "السلاملك" و"الحرملك" فيبدو على شكل قباب تعود أصولها للعمارة المملوكية.
كما تنوّعت النقوشات التي زيّنت جدران القصر من الخارج، بين الزخارف الإسلامية النباتية منها "نبتة السنبلة"، فضلاً عن الزخارف الهندسية وأبرزها "السداسية والثمانية"، وفق المصدر ذاته.
تطوير العثمانيين لعمارة القصر
شملت التعديلات التي أدخلها العثمانيون على عمارة قصر الباشا المملوكية تدعيم القباب بجرار فخارية من المنتصف.
وتقول الباحثة ناريمان خلّة إنّ "العثمانيين قاموا بإنشاء طوابق إضافية للقصر ودمجها مع الطوابق الأرضية التي تعود إلى فترة المماليك"، بيد أنّ الفوارق المعماريّة بين الطوابق تبرز جليّة عبر نوعية الحجارة المستخدمة في الطابقين، حيث إنّ المماليك اعتمدوا على الحجارة الرملية أو الكركار في تشييد الطابق الأرضي، في حين استخدم العثمانيون "الحجارة الصخرية والجيرية في تشييد الطابق الثاني".
غرفة السلطان في القصر
يضمّ مبنى السلاملك 5 غرف، ثلاث منها في الطابق الأرضي، إحداها تُمثّل غرفة السلطان في العهد المملوكي، وغرفتان في الطابق الأول.
أمّا في العصر العثماني، فكانت الغرفة الكبيرة في الطابق الأول والتي تحتفظ بحجارتها الأرضية الأصلية المصنوعة من الرخام إلى اليوم، فضلاً عن احتفاظ عتبات الأبواب برخامها الطبيعي وهي مقرّ السلطان، في حين خُصّصت الغرف الصغيرة للوزراء والأعيان.
متحف قصر الباشا
وقع تخصيص خمس غرف داخل القصر، تُعرض فيها آثار المتحف الذي أُسّس منذ ما يزيد على 10 سنوات، مُقسّمة لخمسة عصور: الأولى للعصر الروماني، الثانية للعصر البيزنطي والإسلامي، الثالثة لزينة النساء، والرابعة للأحجار والأعمدة والتيجان الضخمة، أمّا الخامسة فتحتوي على القطع الأثرية التي تعود إلى العصر الإسلامي.
وفي إحدى زوايا المتحف يُعرض مخطوط "مزامير داود" كُتب بالأرمنية القديمة القريبة من اللغة العبرية والذي يفوق عمره ألفي عام.. وهو المخطوط النادر الوحيد في العالم، الذي يحتوي على تسابيح وتهاليل وترانيم سيدنا داود، مع الإشارة إلى أنه لم تتم ترجمته إلى الآن.
كما يحتوي المتحف على مخطوط للقرآن الكريم يعود للحقبة العثمانية لم يتيسّر التعرّف على طوله لافتقاده للترميم، جيء به من العاصمة العراقية بغداد إلى غزة، صنع من ورق البردي، وعليه وقع نسخ جميع السور القرآنية.