في الوقت الذي يواصل فيه جيش الاحتلال الإسرائيلي ارتكاب مجازر بحق المدنيين الفلسطينيين في مناطق متفرقة من قطاع غزة، يرى محللون أن المستوطنين يتطلعون اليوم أكثر من أي وقت مضى لتمديد دولتهم حتى تشمل القطاع من جديد.
هذه التطلعات أعادت إلى الأذهان مشروع دولة يهودية سبق مساعي تهويد فلسطين بعقود، وكان ذلك في جمهورية "بيروبيدجان" في الاتحاد السوفييتي سابقاً، إذ بلغت مساحتها قرابة حجم سويسرا تقريباً، لكن رفضها اليهود وهجروها في ثلاثينيات القرن الماضي.
ولاية الحكم الذاتي اليهودية الأولى
بيروبيدجان أو بيروبيجان هو الاسم العامي لمنطقة (أوبلاست) في روسيا، والتي كانت تسميتها الرسمية هي "منطقة الحكم الذاتي اليهودية" (أفتوني منايا أوبلاست).
وهي تُعد جزءاً من إقليم كراي في الشرق الأقصى السوفييتي السابق. ويحدها من الغرب والجنوب والجنوب الشرقي نهر آمور، وهو الحد الفاصل بين الاتحاد السوفييتي السابق والصين.
تمتد تلك الولاية على مساحة 36 ألف كم مربع. وفي 1 يناير/كانون الثاني عام 1961، بلغ عدد سكانها 179 ألف نسمة، وعدد سكان العاصمة مدينة بيروبيدجان 49 ألف نسمة. وتشمل صناعاتها الآلات الزراعية والمحولات والمنسوجات والملابس والأثاث.
وتمتلك بيروبيدجان ثروة معدنية وفيرة، لم يتم استغلال معظمها تجارياً، باستثناء خامات القصدير التي تشكل أساس الأعمال المعدنية الوطنية الكبيرة. كما يتم فيها زرع الحبوب والبقول والبطاطس والخضراوات وغيرها من المحاصيل. ومع ذلك، في الوقت الذي بدأ فيه الاستيطان اليهودي هنا، عانت المنطقة من التهميش والفقر والغياب التام للطرق والأراضي الصالحة للزراعة، وعدم كفاية وسوء أماكن المعيشة، والظروف المناخية القاسية والأوضاع غير الصحية.
سبب اختيار بيروبيدجان وطناً لليهود
تأثر القرار السوفييتي باختيار بيروبيدجان للاستيطان اليهودي بعدة عوامل، العامل الحاسم كان الرغبة في تعزيز أمن الشرق الأقصى السوفييتي، نظراً لقربه من اليابان، وخطر الاختراق من قبل الصينيين. وقد أصبحت مستوطنة بيروبيدجان ذات أهمية خاصة للاتحاد السوفييتي بعد الاحتلال الياباني للصين في (1931-1932).
كان الهدف أيضاً من ارتباط اليهود بمستوطنة بيروبيدجان هو الحصول على الدعم المالي من مواطنيهم في الخارج، وبالتالي تسهيل تخصيص الموارد السوفيتية لهذا الغرض.
علاوة على ذلك، يبدو أن هذه التسوية كانت توفر حلاً جزئياً للصعوبات الاقتصادية التي تواجه القوميات السوفييتية. فبدا أن بيروبيدجان شكلت بديلاً أيديولوجياً للفكرة الصهيونية.
كانت الخطوة الرسمية الأولى لتأسيس هذه الدولة هي إرسال وفد علمي إلى بيروبيدجان في صيف عام 1927، لدراسة جدوى إنشاء مستوطنة زراعية هناك. وأدت توصياتها إلى قرار هيئة رئاسة اللجنة التنفيذية المركزية للاتحاد السوفييتي في 28 مارس/آذار 1928، بتكليف كومزيت (لجنة توطين اليهود على الأرض) بالإشراف على الاستيطان اليهودي في المنطقة.
ثم بحلول مايو/أيار عام 1934، مُنحت "مقاطعة بيروبيدجان"، التي تأسست رسمياً عام 1930، وضع "منطقة الحكم الذاتي اليهودي" بمرسوم رسمي.
ضعف الهجرة إلى جمهورية اليهود الأولى
بدأت الهجرة اليهودية إلى بيروبيدجان في أبريل/نيسان 1928، واستمرت بمعدلات متفاوتة على مدار سنوات. ومع ذلك، كان عدم كفاية المرافق والظروف المناخية الصعبة مؤثراً قوياً على معدل المهاجرين بشكل دائم للمقاطعة.
ومن بين المستوطنين المحتملين الذين وصلوا بين عامي 1928 و1933، غادر أكثر من نصفهم.
الوطن البديل عن المشروع الصهيوني
أثار مشروع بيروبيدجان جدلاً بين الناشطين في الاستيطان اليهودي في الاتحاد السوفييتي، وكان من بين منتقديها ميخائيل لارين وأبراهام براغين، وكلاهما ناشطان في حركة الاستيطان اليهودية. وقال لارين إن مناطق أخرى من الاتحاد السوفييتي، وخاصة شبه جزيرة القرم، كانت أكثر ملاءمة بكثير.
وقد وجد مشروع بيروبيدجان مؤيداً متحمساً في ميخائيل كالينين، رئيس الدولة الفخري الأول. وفي حفل استقبال أقيم لممثلي عمال موسكو والصحافة اليديشية في مايو/أيار 1934، اقترح أن إنشاء مركز إقليمي يهودي في بيروبيدجان سيكون السبيل الوحيد لتطبيع الوضع القومي لليهود السوفييت. كما أعرب عن أمله في أن "تصبح بيروبيدجان خلال عقد من الزمن أهم وربما الحصن الوحيد للثقافة الاشتراكية اليهودية الوطنية". معتبراً أن "تحول المنطقة إلى جمهورية هو مسألة وقت فقط".
وكانت حقيقة أن الاستيطان اليهودي في بيروبيدجان متزامناً مع حملات القمع ضد اليهود في ألمانيا النازية عنصراً مساهماً في دعم الفكرة من قبل اليهود خارج الاتحاد السوفيتي. لكن عارضته جميع قطاعات الحركة الصهيونية تقريباً. وكانت المنظمات اليهودية الداعمة لبيروبيدجان موجودة في كندا وأوروبا الغربية وأمريكا الجنوبية. وقامت المنظمات اليهودية بالدعاية لجمهورية ليهود الخارج، وهكذا، وصل حوالي 1400 مهاجر يهودي من دول خارج الاتحاد السوفييتي في أوائل ثلاثينيات القرن العشرين، فهاجروا من الولايات المتحدة وأمريكا الجنوبية وأوروبا وفلسطين وغيرها.
فشل المشروع في غضون سنوات
أدت الهجرة القصيرة بعد الحرب العالمية الثانية إلى بيروبيدجان إلى زيادة عدد السكان اليهود المحليين بمقدار الثلث، وبحلول نهاية عام 1948، قُدر العدد بحوالي 20 ألفاً، وهو أكبر عدد على الإطلاق يستقر بالمنطقة.
ولكن توقف إحياء بيروبيدجان كمركز يهودي في نهاية عام 1948، نتيجة للسياسة السوفييتية لقمع الأنشطة اليهودية في جميع أنحاء الاتحاد السوفييتي، واستهداف المتورطين فيها. فبدأ ستالين في قمع الثقافة اليهودية، وأعدم رئيس حكومة المنطقة، وأحرق الكتب المكتوبة باليديشية، وأغلقت المعابد اليهودية في المنطقة.
علاوة على ذلك، كانت المسافات الشاسعة الفاصلة بين بيروبيجان وغيرها من مدن وحواضر سوفييتية، تقدر بآلاف الكيلومترات، تحد من تدفق السكان. إذ كان الوصول إليها عام 1987 من موسكو يستغرق 12 ساعة بواسطة الطيران الحديث، فيما يستغرق السفر بالقطارات المعتمدة آنذاك أضعاف ذلك من الوقت والمشاق.
نتيجة لذلك، سرعان ما توقفت الهجرة اليهودية إلى بيروبيدجان، وتقلص عدد سكانها اليهود بشكل كبير. كذلك لم تحدث فترة ما بعد ستالين أي تغييرات جوهرية في الحياة اليهودية في بيروبيدجان. فكان السكان اليهود يشكلون أقل من عُشر إجمالي سكان المنطقة في عام 1959.
وقد أصبح السبب المباشر لفشل الجمهورية اليهودية هو أن عمليات الاستهداف الستالينية مرتين، في 1936-1937 وفي 1948-1949، وضعت نهاية للفترات القصيرة من تطوير الحياة اليهودية المستقلة بتلك الجمهورية. ثم بحلول التسعينيات هاجر معظم اليهود المتبقين إلى فلسطين وبعض الدول الغربية الأخرى.
في نهاية المطاف، لم يتبقَّ سوى أعداد قليلة من اليهود في المنطقة، أغلبهم من كبار السن. ووفقاً لتعداد عام 2010، فقد بلغ مجموع سكان المنطقة نحو 170 ألف نسمة، لم يتجاوز عدد السكان اليهود منهم نحو 1600 شخص فقط.