كثيرةٌ هي الروايات عن القضية الفلسطينية، التي تتميز بأسلوبٍ سردي سَلِس وممتع، بعيداً عن التوثيق التاريخي الذي يمكن أن يكون جافاً ومملاً بالنسبة إلى البعض. فمن قال إنه لا يمكن معرفة التاريخ الفلسطيني من خلال الروايات؟!
رافقت الروايات القضية الفلسطينية منذ نكبة 1948 وصولاً إلى اليوم، ومرّت بتحولاتٍ كثيرة على صعيد الأفكار والكتابة والأسلوب. فكانت خيرَ معبّرٍ عن القضية، متجاوزةً أفكار النزاعات والحروب في بعض الأحيان، لتوثّق بواقعية مأساة الفلسطيني بطرقٍ مختلفة عن السائد.
ليس التاريخ الفلسطيني تاريخاً عادياً، ولا يشبه تاريخ أي بلدٍ آخر، فكل ما جرى للفلسطينيين بعد 1948 هو خارج الزمن الطبيعي، تماماً كما هم الفلسطينيون خارج البلد الطبيعي ويعيشون بشكلٍ دائم تحت رحمة "المؤقت".
أبرز الروايات عن القضية الفلسطينية
لا شك أن هناك قائمة كبيرة من الروايات عن فلسطين والقضية الفلسطينية التي حققت نجاحاً كبيراً، سواء لكتابٍ فلسطينيين أم عرب، لكننا اخترنا أن نلقي الضوء على أبرز 5 روايات عن القضية الفلسطينية، تناولتها بشكلٍ مختلف عن السائد.
1- باب الشمس – إلياس خوري
هي حكاية يونس الأسدي، المناضل الفلسطيني الذي يلجأ إلى لبنان بينما تبقى زوجته في فلسطين. لكنه لم يستطع ترك كل شيء خلفه. سيقطع الجبال والوديان جيئة وذهاباً، في رحلاتٍ متكررة إلى فلسطين، ليلتقي زوجته نهيلة بعد أن منعهما الاحتلال من الوجود معاً.
هي حكاية إذاً عن الرحيل والعودة، عندما يتكرر اللقاء بين الزوجين داخل مغارةٍ -أطلق عليها اسم "باب الشمس"- حتى ينجبا معاً 7 أولاد؛ في رمزية واضحة إلى الخصوبة.
ينسج اللبناني إلياس خوري من الحكايات الشخصية للفلسطينيين مادة روايته، في صرحٍ تتداخل فيه حكايات شخصياته ويضيء بعضها بعضاً.
وإذا كانت الحكاية الأساسية في الرواية تتمركز حول يونس، الذي يرقد في مستشفى الجليل فاقداً وعيه، فإن حكاية الراوي نفسه وحكايات أم حسن وعدنان أبو عودة ودنيا وأهالي مخيم شاتيلا لا تقلّ أهمية.
تشدّ الحكاية الأساسية الحكايات الأخرى، التي يقوم الكاتب بتضمينها في قصة يونس الأسدي وتوزيعها على مدار الرواية، للوصول في النهاية إلى لحظة الموت والصعود إلى الأعلى، إلى لحظة الهزيمة أمام التاريخ.
بقدر ما تمتاز رواية "باب الشمس" ببساطتها، فإنها تنطوي على الكثير من الدلالات. فيونس في غيبوبته واسمه وحكايته هو استعارة واضحة للنبي يونس الذي عاش في بطن الحوت. وعزيز أيوب، الذي حرس الشجرة 20 عاماً وكلّم أغصانها، هو استعارة أخرى لقصة النبي أيوب. وهناك أيضاً أسماء أخرى في الرواية، مثل: عين الزيتون، وإبراهيم، ترمز إلى التاريخ الفلسطيني.
لكتابة "باب الشمس" وما حصل بالفعل عام 1948، كان لا بدّ للكاتب إلياس خوري من الاستماع إلى أهالي المخيمات في لبنان، لجمع ما يكفي من معلومات ووقائع عاشوها. وقد تطلب ذلك عملاً كثيراً من خوري، غير البعيد عن المخيمات، كما يصف نفسه.
لا نبالغ لو قلنا إنها من أجمل الروايات عن القضية الفلسطينية، وهي موجودة ضمن قائمة اتحاد الكتاب العرب عن أفضل 100 رواية عربية، وقد تحوّلت إلى فيلمٍ سينمائي عام 2004 بعنوان "باب الشمس، الرحيل والعودة" من إخراج وكتابة وسيناريو يسري نصر الله، وبطولة: باسل خياط، نادرة عمران، عروة نيربية، باسم سمرة، محمد حداقي، وغيرهم.
2- عائد إلى حيفا – غسان كنفاني
واحدة من أجمل الروايات عن القضية الفلسطينية في الأدب المعاصر، وقد نُشرت للمرة الأولى عام 1969، وتُرجمت إلى الإنجليزية واليابانية والروسية؛ وفيها العبارة الأشهر لغسان كنفاني: "كل دموع الأرض لا تستطيع أن تحمل زورقاً صغيراً يتسع لأبوين يبحثان عن طفلهما المفقود".
منذ وقتٍ مبكر، حفر غسان كنفاني اسمه في أدب المقاومة الفلسطينية؛ فرغم اغتياله ووفاته في وقتٍ مبكر، كان حريصاً على التعبير عن المقاومة الفلسطينية، وكانت له كتابات نقدية وأدبية لا نغالي في القول إنها ساهمت في رفع وعي أجيالٍ كثيرة.
في روايته "عائد إلى حيفا"، يترك سعيد وصفية بيتهما في حيفا أثناء نكبة 1948 بشكلٍ قسري، ليعودا إليه بعد 20 عاماً لأنهما تركا ابنهما خلدون. فتكون الصدمة قوية حين يدركان أن خلدون كبر بين جنود الاحتلال، فيخسر الأب أرضه وابنه.
رواية قصيرة وموجزة، لكنها نوعٌ من المحاكمة للذات من خلال إعادة النظر في مفهومَي العودة والوطن، ومن دون شك تعبّر عن واحدة من أكبر مآسي فلسطينيي 48، وما يتعرضون له من طمسٍ للهوية.
تلك الهوية التي تضيع بين قرابة الدم وانتماء التربية، فماذا لو وُلد المرء فلسطينياً، لكنه تربّى وسط أسرة يهودية وتعلّم في مدارس إسرائيلية، ثم خدم في الجيش الإسرائيلي؟ هل سيبقى فلسطينياً، أم يصبح إسرائيلياً؟ وهل الهوية مكتسبة، أم هي انتماء وتربية؟
حظيت رواية "عائد إلى حيفا" باهتمامٍ كبير بين المسرح والتلفزيون والسينما، وكانت ملهمة لأعمالٍ كثيرة، أبرزها مسرحية "عائد إلى حيفا" من إخراج اللبنانية لينا أبيض (2010)، ومسلسل بالعنوان نفسه من إخراج باسل الخطيب (2004)، وعدد من الأفلام السينمائية.
3- الطنطورية – رضوى عاشور
تتتبّع الروائية المصرية رضوى عاشور في رائعتها "الطنطورية" مسيرة عائلة فلسطينية، من خلال رقية، الفتاة الصغيرة ذات الـ13 عاماً، التي تروي بأسلوبٍ رقيق كل الأحداث التي مرّت بها والتي عاشتها 3 أجيالٍ من عائلتها.
تنطلق الرواية من الفترة التي عاشتها رقية مع أهلها في قرية الطنطورة قبل النكبة، لترصد ما مرّت به خلال مذبحة الطنطورة عام 1948، خرجت على أثرها مع عائلتها ليصبحوا في مخيمات اللاجئين. وبموازاة ذلك، ترصد نكسة 1967 ومذابح صبرا وشاتيلا، وصولاً إلى مقتل ناجي العلي.
ما يميّز رواية "الطنطورية" أن رضوى عاشور جمعت ببراعة بين التوثيق التاريخي والسرد القصصي لحياة هذه العائلة، وطبيعة العلاقة التي تجمع بين أفرادها، والمشاعر المتضاربة بين الغربة والأمل والحب؛ كل ذلك بأسلوبٍ سردي سلس وممتع.
هي بالتأكيد واحدة من أجمل الروايات عن القضية الفلسطينية، وننصح بقراءتها.
4- رأيتُ رام الله – مريد البرغوثي
إلى جانب "وُلدت هناك، وُلدت هنا"، يُعتبر كتاب "رأيتُ رام الله" تجربة روائية ونثرية أراد من خلالها الأديب الفلسطيني مريد البرغوثي لفت أنظار العالم إلى القضية الفلسطينية، والهجرة القسرية التي فُرضت على الشعب الفلسطيني.
في "رأيتُ رام الله"، يستخدم البرغوثي قصة حياته ويوثّقها في روايةٍ تبدأ من رحلة عودته إلى رام الله بعد غربةٍ قسرية دامت 30 عاماً، ليصف تجربته الشخصية عند عودته إلى دير غسانة والحارة التي وُلد وعاش فيها، بأسلوبه الممتع الذي لا يخلو من عباراتٍ تدعو إلى التأمل.
هي من دون شك واحدة من أجمل الروايات عن فلسطين، وقد حصدت منذ صدور الطبعة الأولى عام 1997 صدىً جماهيرياً كبيراً، ساهم في حصولها على جائزة نجيب محفوظ للإبداع في مجال الأدب.
المفكر والناقد الفلسطيني إدوارد سعيد كتب مقدمة الطبعة الإنجليزية من الكتاب عام 2000، التي ترجمتها أهداف سويف، وقد أصبحت مقدمة سعيد جزءاً لا يتجزأ من الكتاب في طبعاته المختلفة بلغاتٍ عدة.
تُقسَّم رواية "رأيتُ رام الله" إلى 9 فصول، تبدأ من رحلة الجسر ثم انتظاره الحصول على تصريح دخول، وتنتقل إلى سرد الأحداث وتوثيقها من خلال المقارنة بين الأمس واليوم، لتنتهي بوصف الليلة الأخيرة له في رام الله قبل عودته إلى الجسر.
صحيح أن مريد البرغوثي يتحدث عن تجربته وحياته بين الرحيل والعودة، لكن رواية "رأيتُ رام الله" تصلح لتكون سيرة حياة كل فلسطيني أُجبر بعد نكبة 1948 على الرحيل عن أرضه وحارته وبيته، وسيرة كل فلسطيني تعصف به المشاعر حين يُسمح له بالعودة.
لاحقاً، في كتاب "ولدتُ هناك، ولدتُ هنا" الذي صدر عام 2009، ويُعتبر الجزء الثاني من "رأيت رام الله"، يأخذ مريد البرغوثي ابنه تميماً إلى فلسطين موثقاً تفاصيل الرحلة، ومقارناً بين الأمس واليوم أيضاً.
5- البحث عن وليد مسعود – جبرا إبراهيم جبرا
تدور أحداث الرواية بأكملها، والمكونة من 12 فصلاً، حول وليد مسعود؛ ذلك الفلسطيني المتمرد الذي ترك وراءه تاريخاً من النضال ضدّ المحتل الصهيوني في فلسطين، ليغرق في شبكةٍ من العلاقات المعقدة.
في "البحث عن وليد مسعود"، يسعى المثقف والروائي الفلسطيني الكبير جبرا إبراهيم جبرا إلى "أسطرة" بطله وليد ليتحوّل إلى نموذجٍ المناضل الفلسطيني في الغربة، متطرقاً إلى أسرار حياته العاطفية وطفولته في فلسطين، إضافةً إلى مواقفه الدينية والسياسية.
ليس وليد مسعود بعيداً عن جبرا وحياته، وهو المولود في فلسطين الذي اضطُرّ إلى تركها بعد نكبة 1948 ليعيش في بغداد، لكن ذكرياته وتفاصيل حياته ما زالت مرتبطة بشكلٍ وثيق بالقدس وفلسطين.
هي رواية معبّرة عن الوجع الفلسطيني في الداخل والخارج، نتعرّف من خلالها على نموذج الفلسطيني المناضل المسكون بأوجاع وطنه، والمحاصر بذكرياته في الغربة التي يعيشها ويعيشها كل فلسطيني خارج أرضه.
من أجمل الروايات عن القضية الفلسطينية وفلسطين، التي تبقى محفورة في قلب كل فلسطيني، مهما ابتعد عنها.