قاد سعيد بن جبير العلم في العصر الأموي، بعدما درسه على يد حبر الأمة عبد الله بن عباس وعن أم المؤمنين السيدة عائشة، حتى صار يوصف بالإمام الحافظ القارئ والعالِم الشامخ التقي الذي لم يعش طويلاً.
سكن مدينة الكوفة ونشر العلم فيها، وكان من علماء التابعين. فطبعت شخصيته التاريخ الإسلامي، لا سيما بعد أن مات شهيداً ثائراً في وجه الحجاج بن يوسف، الذي قتله بسبب خروجه مع عبد الرحمن بن الأشعث في ثورته على بني أمَيّة.
أحَبَّه الناس لأنه كان سيفاً صادعاً بالحق، لدرجة أنه تجرأ على تحدّي حكم والي العراق. فشكّلت قصة سعيد بن جبير مع الحجاج مرجعاً يُدرّس، عن الثورة بوجه الظلم والطغاة، وإحقاق الحق حتى الموت.
من هو سعيد بن جبير؟
هو سعيد بن جبير بن هشام الأسدي، ولكنه ليس من بني أسد، بل مولى بني أسد ومن الرجال التابعين. يعود أصله إلى الحبشة، لكن تاريخ ميلاده غير معروف، عكس تاريخ وفاته عام 95 وفق التقويم الهجري.
لكن ذكرت بعض المصادر أن بن جبير قال مرةً لابنه: "ما بقاء أبيك بعد سبعة وخمسين"؟ لذلك يُقدّر أنه وُلد سنة 38 للهجرة، وعاش 57 عاماً، رغم أن مصادر أخرى تُشير إلى أنه توفي وله 49 عاماً من العمر.
لا يُعرف الكثير عن نشأته وموارد تعليمه، لكنه وُلد في زمن خلافة الإمام علي بن أبي طالب بالكوفة، من والدَين مملوكين. والده جبير مولى بني والبة، ووالدته معروفة بـ"أم الدهماء"، فكان سعيد "مملوكاً أسود".
نشأ في الكوفة وتلقى تعليمه الأول في مسجدها، الذي كان يعجّ بطلاب العلم، ثم انتقل إلى مكة المكرمة؛ حيث صحب شيخ علماء الصحابة عبد الله بن عباس. قرأ القرآن على يده، وأخذ عنه الفقه والتفسير والحديث، حتى أصبح يُعتبر من أعلم أهل زمانه.
يُقال إن شغف المعرفة غلب على سعيد بن جبير، وقد بلغ رتبةً في العلم لم يبلغها أحد من أقرانه، حتى قال خصيف بن عبد الرحمن عن أصحاب بن عباس: "كان أعلمهم بالقرآن مجاهد، وأعلمهم بالحج عطاء، وأعلمهم بالطلاق سعيد بن المسيب، وأجمعهم لهذه العلوم سعيد بن جبير".
وجد بن عباس في سعيد ذكاءً حاداً، وقابلية على إدراك الحديث فاقت غيره ممن قدموا إليه لطلب العلم، حتى صار سعيد يحدِّث بمحضر أستاذه بن عباس.
ويروي كلّ من ابن سعد وابن خلكان قصة المرة الأولى التي خطب فيها سعيد بن جبير بمحضر أستاذه، الذي أمره بالتصدّر للحديث والإفتاء. فقال له سعيد: "أأُحدّث وأنت هاهنا"؟ فردّ بن عباس: "أوليس من نعمة الله عليك أن تتحدث وأنا شاهد؟ فإن أصبتَ فذاك، وإن أخطأتَ علّمتك".
قصة سعيد بن جبير والحجاج بن يوسف
منذ ذلك الوقت، انطلق ابن جبير يبث علمه وينثر ذكاءه ونبوغه، إلى أن توفي بن عباس. رافق بعده عدداً من الصحابة، لكن موقع "إسلام أونلاين" يُشير إلى أنه لم يجد ضالته في العلم حتى التقى بالإمام علي بن الحسين زين العابدين، فانتقل إلى المدينة المنورة.
في العقد الثالث من الدولة الأموية الأولى، عاصر سعيد بن جبير الكثير من الأحداث المأساوية التي عاشتها الأمة الإسلامية، والتي جعلته معارضاً للدولة وسياساتها.
فقد شهد ثورة الصحابي الجليل عبد الله بن الزبير الذي قُتل وصُلب على يد المرتزقة القادمين من العراق والشام، من أجل استباحة المدينة المنورة رمي الكعبة المشرفة بالمنجنيق. فاندلعت "ثورة القراء" ضدّ الأمويين بقيادة عبد الرحمن بن الأشعث.
استمرت ثورة القراء (أو ثورة الفقهاء، لأن مصطلح "القراء" كان يُطلق على علماء الشرع حصراً) طوال 5 سنوات، وسعت لخلع عبد الملك بن مروان (المؤسس الثاني للدولة الأموية) وواليه على العراق الحجاج بن يوسف الثقفي.
وقد كان سعيد بن جبير أحد قادتها المؤثرين، إلى جانب أنس بن مالك، وعمرو بن دينار، وعامر بن شراحيل الشعبي، وطلق بن حبيب، وغيرهم من أهل العلم في العراق.
ووفقاً لموقع "الجزيرة"، وصل عدد المعارك التي دارت بين الطرفين إلى 80، كان ختامها دامياً في موقعة دير الجماجم عام 703. فقد التحم جيش الحجاج بجيش القراء، واستمر القتال بينهما لأكثر من 3 أشهر، حمل فيها القراء شعار "يا لثارات الصلاة".
انتهت الثورة بهزيمة جيش القراء الذي تفرّق، خوفاً من بطش الحجاج الذي صبّ كامل غضبه على سعيد بن جبير، وركز الطلب عليه. لكن الأخير أعلن رفضه لطغيانه وبطشه، داعياً إلى الثورة عليه.
ذهب بن جبير إلى مكة المكرمة، واختبأ مع جماعة من أضرابه، وقيل أيضاً إنه دخل أصبهان وأقام فيها مدة، قبل أن يتجه نحو العراق، حيث سكن قرية سنبلان. وفي الواقع، توارى عن الحجاج نحو 12 عاماً.
ابن جبير.. قتيل الحجاج أم قاتله؟
كان سعيد بن جبير من أوائل الثائرين على السلطة الأموية، وكان يرى في الحجاج بن يوسف أكبر موبقات عبد الملك بن مروان، ولذلك كان رفضه لحكمه رفضاً مبدئياً، بسبب مبالغتهما في العداء ضدّ المسلمين.
فكان يرفع صوته قائلاً: "قاتلوهم على جورهم في الحكم، وخروجهم من الدين، وتجبّرهم على عباد الله، وإماتتهم الصلاة، واستذلالهم المسلمين".
يصف السيوطي عبد الملك بن مروان وطاغيته الحجاج، فيقول: "لو لم يكن من مساوئ عبد الملك بن مروان إلا الحجاج، وتوليته إياه على المسلمين وعلى الصحابة يهينهم ويذلهم قتلاً وضرباً وشتماً وحبساً، وقد قتل من الصحابة وأكابر التابعين فضلاً عن غيرهم، وختم عنق أنس وغيره من الصحابة يريد بذلك ذلهم، لكفى ذلك في مساوئه، فلا رحمه الله ولا عفا عنه".
بعد 12 عاماً، اقتُرح على ابن جبير مغادرة مكة بعد تولية خالد بن عبد الله عليها. يروي ابن الأثير أن الوليد بن عبد الملك كتب إلى خالد بحمل أهل العراق إلى الحجاج، "فأخذ سعيد بن جبير ومجاهداً وطلق بن حبيب، وأرسلهم إليه. مات طلق في الطريق، وحبس مجاهداً حتى مات الحجاج".
لم يمكث سعيد بن جبير في بيته بالكوفة طويلاً، حتى أحاطت به رسل الحجاج بن يوسف، وسيقَ إلى موته. ولكن قبل أن يُقتل، دار بينه وبين الحجاج الحوار التالي:
يسأله الحجاج: ما اسمك؟ فيقول: سعيد بن جبير، ليردّ الحجاج: بل أنت شقي بن كسير. ويُجيبه سعيد: بل أنا سعيد بن جبير، فيكرر الحجاج: بل أنت شقي بن كسير. ويقول ابن جبير: أمي كانت أعلم باسمي منك.
- يغضب الحجاج ويردّ: والله لأقتلنلك.
- سعيد: إني إذاً لسعيد كما سمّتني أمي.
- الحجاج: شقيتَ أنت، وشقيتْ أمك.
- سعيد: الغيب يعلمه غيرك.
- الحجاج: لأبدلنَّك بالدنيا ناراً تلظَّى.
- سعيد: لو علمتُ أن ذلك بيدك لاتخذتك إلهاً.
- الحجاج: فما قولك في محمد؟
- سعيد: نبي الرحمة، وإمام الهدى، خير من بقي وخير من مضى.
- الحجاج: فما قولك في علي بن أبي طالب؟
- سعيد: ابن عم رسول الله وأول من أسلم، وزوج فاطمة (سلام الله عليها)، وأبو الحسن والحسين (عليهما السلام).
- الحجاج: أهو في الجنة أم في النار؟
- سعيد: لو دخلتها، فرأيت أهلها، لعرفت.
- الحجاج: فما قولك في الخلفاء؟
- سعيد: لست عليهم بوكيل.
- الحجاج: فأيهم أعجب إليك؟
- سعيد: أرضاهم لخالقي.
- الحجاج: فأيّهم أرضى للخالق؟
- سعيد: علم ذلك عنده.
- الحجاج: أبيتَ أن تصدقني.
- سعيد: إني لم أحب أن أكذبك.
- الحجاج: فما تقول في معاوية؟
- سعيد: شغلتني نفسي عن تصريف هذه الأمة وتمييز أعمالها.
- الحجاج: فما تقول فيّ؟
- سعيد: أنت أعلم بنفسك.
- الحجاج: بت بعلمك.
- سعيد: إذاً يسوؤك ولا يسرك.
- الحجاج: بت بعلمك.
- سعيد: أعفني.
- الحجاج: لا عفا الله عني إن عفوتك.
- سعيد: إني لأعلم أنك مخالف لكتاب الله تعالى، ترى لنفسك أموراً تريد بها الهيبة وهي تقحمك الهلكة، وسترد غداً فتعلم.
- الحجاج: أنا أَحَبّ إلى الله منك.
- سعيد: لا يقدم أحد على ربّه حتى يعرف منزلته منه، والله بالغيب أعلم.
- الحجاج: كيف لا أقدم علي ربّي في مقامي هذا، وأنا مع إمام الجماعة، وأنت مع إمام الفرقة والفتنة!
- سعيد: ما أنا بخارج عن الجماعة، ولا أنا براضٍ عن الفتنة.
- الحجاج: والله لأقتلنك قتلة لم أقتلها أحداً قبلك، ولا أقتلها أحداً بعدك.
- سعيد: إذاً تفسد عليّ دنياي، وأفسد عليك آخرتك.
يُقال إن الحجاج حاول اتباع طريق آخر مع سعيد بن جبير، فأغراه بالمال واضعاً بين يديه الزبرجد والياقوت واللؤلؤ. فما كان من الإمام الثائر إلا أن قال له: إن كنت جمعت هذا لتفتدي به من فزع يوم القيامة، فصالح. وإلا ففزعة واحدة تذهل كل مرضعة عما أرضعت، ولا خير في شيء جُمع للدنيا إلا ما طاب وزكا.
- الحجاج: ويلك يا سعيد.
- سعيد: الويل لمن زُحزِح عن الجنة وأدخل النار.
- الحجاج: فاختر أيَّ قتلة أقتلك.
- سعيد: اختر لنفسك يا حجاج. فوالله ما تقتلني قتلة، إلا قتلك الله مثلها في الآخرة.
- الحجاج: أتُريد أن أعفو عنك؟
- سعيد: إن كان العفو، فمِن الله. وأما أنت، فلا براءة لك ولا عذر.
عندها، قال الحجاج آمراً: اذهبوا به فاقتلوه. فلمّا خرج من الباب، ضحك. أُخبر الحجاج بذلك، فأمر بردِّه وسأله: ما أضحكك يا سعيد؟ أجابه: عجبت مِن جُرأتك على الله وحِلم الله عنك.
- فعاد وأمر الحجاج: اقتلوه.
- سعيد: وجَّهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفاً مُسلماً، وما أنا مِن المُشركين.
- الحجاج: شدُّوا به لغير القبلة!
- سعيد: "فأينما تولُّوا فثمَّ وجه الله".
- الحجاج: كبُّوه على وجهه.
- سعيد: "منها خلقناكم وفيها نُعيدكم ومنها نُخرجكم تارة أُخرى".
- الحجاج: اذبحوه.
- سعيد: أما أني أَشهد وأحاجُّ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله. خذها مني حتى تلقاني يوم القيامة. ثمَّ دعا سعيد الله فقال: اللَّهم لا تُسلّطه على أحد يقتله بعدي.
حاول الحجاج بن يوسف تدارك الأمر، فإذا به خرج عن السيطرة، وعاد السيّاف مضرّجاً بدم ابن جبير الذي ذُبح على النطع. لكن طيف القتيل بدأ يلاحق الحجاج ويرعبه حتى ساقه إلى الموت.
لم يعِش الحجاج بن يوسف طويلاً بعد ضحيته، وظلّ يُنادي فيها: "مالي ولسعيد بن جبير، مالي ولسعيد، كلّما أردتُ النوم أخذ برجلي". ثم لم يطُل مقام الحجاج حتى نخر المرض جسمه ومات، لتصبح قصة سعيد بن جبير والحجاج خالدة في التاريخ.