تعتبر مدينة درنة الليبية، التي تعيش أياماً سوداء بسبب عاصفة دانيال، واحدةً من أبرز المحطات المؤثرة في حياة مصطفى كمال أتاتورك، الذي جاء إلى هذه المدينة وهو قائد لكتيبة عسكرية عثمانية، قبل أن يتعرض لإصابة خطيرة كادت أن تكلفه حياته، ولكنه في النهاية خرج منها وهو مرفوع الرأس بفضل الانتصارات الكبيرة التي حققها.
مدينة درنة الليبية صاحبة الفضل على مصطفى كمال أتاتورك
في 29 سبتمبر/أيلول 1911، أعلنت إيطاليا الحرب على الدولة العثمانية. أعلن الإيطاليون الحرب من دون أي مقدمات أو مفاوضات، من أجل الاستيلاء على ليبيا، آخر أراضي الإمبراطورية العثمانية في شمال إفريقيا.
كانت إيطاليا تسعى لاحتلال ليبيا لأسباب عديدة، أولها أن جميع البلدان الواقعة على الساحل الجنوبي للبحر الأبيض المتوسط كانت محتلة بالفعل، وثانيها هو قرب الأراضي الليبية من سواحل إيطاليا، وثالثها هي الخيرات والموارد الطبيعية الكثيرة الموجودة في ليبيا، والتي تحتاجها إيطاليا من أجل دعم عجلتها الصناعية في تلك الآونة.
في ذلك الوقت كانت الدولة العثمانية، التي كانت تمر بأوقات عصيبة سياسياً وعسكرياً واقتصادياً، في موقف ضعيف أمام الإيطاليين.
وكان للعثمانيين جيش صغير في طرابلس، مقارنةً بالإيطاليين الذين كانوا يستعدون لهذه الحرب منذ فترة طويلة.
بدعم من الحكومتين البريطانية والفرنسية، بدأت إيطاليا الهجوم بإغراق بعض السفن العثمانية في البحر الأدرياتيكي، قبل أن يتمكنوا من السيطرة على طرابلس في 5 أكتوبر/تشرين الأول.
ولم يقتصر الأمر على ذلك فحسب، بل قاموا بإنزال قوات في درنة بعدها بنحو أسبوعين.
وبينما كان الصراع العنيف يدور بين الجانبين، اعتقدت الدولة العثمانية أنها تستطيع حماية طرابلس ودرنة من خلال حرب "الميليشيات"، لذلك قررت إرسال بعض الضباط الشباب بشكل سري إلى ليبيا.
أتاتورك وصل إلى درنة وهو متنكر بهيئة شاب صحفي
ووفقاً لما ذكرته صحيفة Cumhuriyet التركية فإنّ مصطفى كمال أتاتورك كان من بين الضباط الشباب الذين وصلوا ليبيا في 15 أكتوبر/تشرين الأول، وقد ذهب إلى هناك تحت اسم مستعار "شريف"، وادعى أنه صحفي، بينما كان ضابطاً برتبة نقيب.
تمكّن مصطفى كمال، الذي انضم إلى السكان المحليين في المنطقة، من إنشاء جبهة دفاعية ضد الجيش الإيطالي المتفوق في مدينة درنة، التي أصبح قائداً لها.
إصابة مصطفى كمال أتاتورك في درنة
دخل مصطفى كمال رفقة جيشه الذي خلقه من لا شيء، والمكون فقط من نحو 200 متطوع ليبي في حرب شرسة ضد الإيطاليين، وقد حقق خلال هذا الصراع نجاحاً كبيراً، إذ حقق الانتصار في معركة "طبرق"، في 22 ديسمبر/كانون الأول 1911، أمام أكثر من 2000 جندي إيطالي، وفقاً لما ذكرته صحيفة Takvim التركية.
في هذه المعركة بالتحديد أصيب مصطفى كمال أتاتورك بإصابات خطيرة وفقاً لما ذكره موقع TRT التركي.
فقد سقطت قذيفة بالقرب من الحفرة التي كان يختبئ بها، فدخلت الشظايا المتناثرة في جسده وإحدى عينيه، ما أدى لإصابته بجروح خطيرة كادت أن تودي بحياته، ولكنه نجا منها بأعجوبة.
بزوغ نجم أتاتورك وترقيته من نقيب إلى رائد
أسهم الدور الكبير الذي قدمه مصطفى كمال أتاتورك، رفقة المتطوعين الليبيين في حماية مدينة درنة، وتحديداً معركة طبرق، في بزوغ نجم القائد الصغير؛ ما دفع الحكومة العثمانية إلى ترقيته من رتبة نقيب إلى رائد.
ففي معركة طبرق استطاع أتاتورك تحقيق انتصار لم يتوقعه أحد، فكيف يمكن لشاب صغير، يقود مجموعة مؤلفة من 200 شاب محليين قليلي الخبرة العسكرية، الانتصار على 2000 جندي إيطالي مدربين ومجهزين بأحدث المعدات تحت قيادة الجنرال كارلو كانيفا، كما تسبب بمقتل 42 جندياً إيطالياً مقابل تقديم 6 شهداء فقط.
ليس ذلك وحسب، بل إنّ الجيش الإيطالي كان قد استخدم في هذه المعركة تحديداً القاذفة لأول مرة في تاريخ الحروب، وهي طائرة عسكرية مصممة لإسقاط القنابل على أهداف سطحية، حيث وصل طيار إيطالي في مهمة مراقبة وقام بإسقاط أربع قنابل يدوية على هدفين عثمانيين.
فتحول أتاتورك بذلك من قائد لا يعرفه أحد إلى ضابط شهير في القوات العثمانية.
نهاية الحرب وخسارة العثمانيين وانسحاب أتاتورك من درنة
استغل الإيطاليون تصاعد وتيرة أحداث التمرد على السلطنة العثمانية في اليمن من خلال مهاجمتهم ميناء الحديدة وإغراق بعض السفن العثمانية، ومن ثم هاجموا مدينة بيروت، وأغرقوا سفينتين عثمانيتين، ثم قصفوا المدينة التي كان بها الكثير من السكان الفرنسيين، وذلك من أجل أن تضغط فرنسا على الدولة العثمانية للانسحاب من ليبيا.
ثم توجه الأسطول الإيطالي إلى مضيق الدردنيل وقاموا بقصفه، من أجل ضرب الاقتصاد والتجارة الدولية والعثمانية.
توجهت القوات الإيطالية إلى جزيرة رودس اليونانية، التي كانت تحت الحكم العثماني آنذاك، ودارت هناك معركة شرسة استمرت أسبوعين، وانتهت بانتصار الإيطاليين، وإنهاء الحكم العثماني على جزيرة رودس، الذي دام نحو 4 قرون من الزمن.
كما قامت القوات الإيطالية بشنّ هجمات على بحر إيجة، وقصف العاصمة إسطنبول، بأمر من الكابتن فاشيللو اينريكو ميللو.
أما الشعرة التي قصمت ظهر البعير فكانت عندما أعلن الجبل الأسود الحرب على الإمبراطورية العثمانية، في 8 أكتوبر/تشرين الأول 1912، وقد تمكنت القوات البحرية الإيطالية الموجودة في بحر إيجة من منع إرسال المساعدات من إسطنبول إلى الجنود في مقدونيا والجبل الأسود.
وهنا اضطرت الإمبراطورية العثمانية لقبول السلام مع الإيطاليين بشروط إيطاليا، وتوقيع معاهدة أوشي، في 18 أكتوبر/تشرين الأول 1912، لتعلن ايطاليا سيادتها على ليبيا ما عدا طرابلس، في 5 نوفمبر/تشرين الثاني 1912.
في حين غادر كمال أتاتورك مدينة درنة متجهاً للقتال في البلقان، بعد أن ساءت الأوضاع هناك.
والأحد 10 سبتمبر/أيلول 2023، اجتاحت العاصفة المتوسطية "دانيال" عدة مناطق شرقي ليبيا، أبرزها مدن درنة وبنغازي والبيضاء والمرج، إضافة إلى سوسة.
ولكن درنة كانت المدينة الأسوأ حظاً، فقد تسببت العاصفة بانهيار سدود وجرفت في طريقها بنايات ومنازل، ومحت ما يقرب من ربع المدينة الساحلية الواقعة شرق البلاد، ما أدى إلى سقوط آلاف القتلى، فيما لا يزال مصير الآلاف مجهولاً.
قد يهمك أيضاً: 100 ألف من أحفاد العثمانيين يعيشون في ليبيا.. عن هؤلاء تحدّث الرئيس التركي أردوغان