منذ احتلالها الجزائر سنة 1830، لم تدّخر سلطات الاحتلال الفرنسي جهداً من أجل تجهيل الشعب الجزائري وإبعاده عن الدين الإسلامي ولغته العربية، وعمل على ذلك من خلال سلسلة طويلة من إجراءاته العقابية والقمعية ضد الجزائريين، من أجل حرمانهم من تعلّم القرآن الكريم واللغة العربية، عبر حظر اللغة العربية، والتضييق على كتاتيب تعليم القرآن، وإغلاق المساجد.
وفي سنة 1930، وبمناسبة مئوية الاحتلال الفرنسي للجزائر، أقام المستعمر الفرنسي حفلةً كبيرةً من أجل الاحتفال بنهاية الإسلام والعربية في الجزائر، غير أنّه بعد تلك الاحتفالية نجحت المطبعة الثعالبية لصاحبها رودوسي قدور بن مراد التركي في طبع أوّل مصحف جزائري بالخط الثعالبي، وهو المصحف الذي شهد انتشاراً واسعاً في الجزائر، ووصل انتشاره إلى كلّ البلدان المغربية من المغرب إلى تونس وليبيا وحتى جنوباً إلى موريتانيا.
وبقدر انتشاره الكبير، أسهم مصحف المطبعة الثعالبية في إحباط المخطط الفرنسي في إبعاد الجزائريين عن تعلم القرآن الكريم، فبحلول الاستقلال سنة 1962، كان في كلّ بيت بالجزائر مصحف مطبوع من المطبعة الثعالبية.
رودوسي قدور بن مراد التركي الذي أسّس المطبعة الثعالبية
وفقاً لمقال بحثي بعنوان "تاريخ طباعة المصحف في الجزائر"، يتفق أغلب المؤرخين أنّ الجزائر لم تشهد مطبعة متخصصة في طبع الكتب إلا في نهاية القرن الـ19، فقد كانت أغلب الكتب في العهد العثماني والفترة الأولى من الاحتلال الفرنسي تتسرب إلى الجزائر من مصر ودول المشرق العربي، خصوصاً أنّ القناصلة الفرنسيين كانوا يتعاملون مع تجار الكتب في المشرق العربي، من أجل تحسين صورة فرنسا في الشرق الأوسط، كما كان المستشرقون الفرنسيون بالجزائر بحاجة إلى معرفة ما يكتب في مصر وبلاد الشام والحجاز.
مع ذلك، كانت السلطات الفرنسية بحاجة إلى مطبعة عربية بالجزائر لتحقيق أغراضها السالفة الذكر، فكانت أول مطبعة عربية جزائرية هي المطبعة الثعالبية التي أسسها تاجر الكتب رودوسي قدور بن مراد التركي سنة 1895.
كان رودوسي قدور بن مراد التركي تاجراً للكتب من جزيرة رودس، ويذكر شيخ المؤرخين الجزائريين، الدكتور الراحل أبو القاسم سعد الله، أنّ عائلة قدور بن مراد كانت إحدى العائلات العثمانية المستقرة بالجزائر خلال العهد العثماني، قبل أن يطردها الاحتلال الفرنسي أثناء غزوه الجزائر، لتستقر في جزيرة روس.
وكان رودوسي قدور بن مراد يتاجر بالكتب التي يأتي بها من مصر ولبنان وغيرهما من بلدان المشرق العربي، وخلال فترة تجارته ربطته علاقات طيبة مع السلطات الفرنسية وقناصلها المتفرقين في الدول العربية.
سمحت تلك العلاقات بعودة رودوسي قدور بن مراد التركي بالعودة إلى وطنه الجزائر، وذلك بعد أن قبل الحاكم الفرنسي للجزائر، جول كامبون، له بالاستقرار في مدينة الجزائر وتجارة الكتب بها.
وفي سنة 1895، قرّر رودوسي قدور بن مراد التركي إنشاء مطبعته الخاصة لطباعة الكتب العربية، فأنشأ مطبعة سميت فيما بعد المطبعة الثعالبية، وكانت أوّل مطبعة في الجزائر.
تلقت المطبعة دعماً فرنسياً في البداية
ساعدت المكانة التي كان يتمتع بها رودوسي قدور بن مراد في الوسط الثقافي الجزائري والعربي من شهرة مطبعته، فقد كان رودوسي قدور بن مراد صهراً لعائلة العلامة الجزائري ابن أبي شنب، صاحب أوّل دكتوراه في الجزائر، كما كانت مطبعته محطةً للأدباء والعلماء، خصوصاً أنّ مقرها كان في قلب حي القصبة العريق.
تخصصت المطبعة الثعالبية بالتدرج في طباعة الكتب الدينية والمصحف الشريف، وطبعت تراثاً ضخماً من الكتب الإسلامية، ولم تكن ثمة مطبعة تنافسها، وكان مما طبعته: تفسير الإمام الثعالبي، وتفسير الإمام الطبري، وتفسير البيضاوي، ومتن الشاطبية، وشرح ابن القاصح علاها، ومتن تحفة الأطفال وصحيح البخاري، وشرح ابن حجر، وصحيح مسلم، وشرح النووي، وغيرها، وفي الفترة ما بين سنة 1920 و1927 شرعت المطبعة في وضع فهارس شاملة لجميع مطبوعاتها.
كان الدعم الفرنسي لمطبعة الثعالبية في البداية واضحاً، فقد فتحت السلطات الفرنسية طريق التوزيع للمطبعة، فراجت كتب المطبعة الثعالبية في غرب إفريقيا والمستعمرات الفرنسية الأخرى، كما اشتهرت في تونس والمغرب الأقصى.
غير أنّ طباعة المطبعة للمصحف بدءاً من سنة 1931، فتح أمامها أبواب الصراع مع سلطات الاحتلال الفرنسي، التي عملت على التضييق على المطبعة ومحاولة توقيفها عن طباعة المصحف الشريف ومصادرته.
مصحف المطبعة الثعالبية.. أشهر مصحف في الجزائر
كان مشروع طباعة المصحف الشريف من أولويات المطبعة الثعالبية ومؤسسها رودوسي قدور بن مراد التركي، فقد كان أول إصدار أصدرته المطبعة الثعالبية للمصحف الشريف بعد 10 سنوات من تأسيسها، وبالضبط سنة 1905، وهو المصحف الذي خطّه الشيخ المصالي، ثم أصدرت المطبعة سنة 1907 مصحفاً ضمّ الربع الأخير من القرآن الكريم بخطّ الفنان الجزائري عمر راسم.
ثم وقع اختيار رودوسي قدور بن مراد على خطاط جزائري متميز، أسند إليه كتابة المصحف كاملاً بالخط الثعالبي المميز، وهو الخطاط محمد الشرّادي المعروف بلقب الصفطي.
وفي سنة 1931، بدأت مطبعة الثعالبية في طباعة مصحفها، وذلك بعد أرسلت نسخاً منها للتصحيح إلى الأزهر الشريف بمصر.
وأسهم المصحف بشكل مباشر في تعليم الجزائريين القرآن الكريم، وذلك بعد أن انتشر بشكلٍ واسعٍ بين الزوايا الصوفية التي اعتمدته لتعليم القرآن، كما كانت طباعة المصحف على أربعة أجزاء مناسبة لانتشاره في كلّ مدن الجزائر.
وبعد الاستقلال، اهتمت السلطات الجزائرية بطباعة مصحف مطبعة الثعالبية، محافظاً على ريادته لمدة طويلة، فقد كان كل بيتٍ في الجزائر به مصحف الثعالبية.