على الرغم من أن الحرب العالمية الثانية انتهت بانتصار ساحق للحلفاء على ألمانيا النازية، غير أنّ هتلر كانت لديه عدة فرصٍ لحسم الحرب لو استغلها أحسن استغلال، أبرزها معلومة سرية عن اجتماع قادة الحلفاء (فرانكلين روزفلت، وجوزيف ستالين، ونستون تشرشل) في مؤتمر طهران، والمعلومات الاستخباراتية التي تحصّل عليها حول عملية إنزال النورماندي التي حسمت الحرب بشكلٍ كبيرٍ لفائدة الحلفاء.
ويقف وراء كلّ تلك الفرص الذهبية التي سنحت لهتلر لقلب موازين الحرب لو أولى لها أهمية، رجلٌ تركيٌّ يدعى إلياس بازنا، أو كما يسميه الألمان شيشرو، وهو الرجل الذي وصفته المخابرات البريطانية بأنه أخطر جاسوس ضد دول الحلفاء في الحرب العالمية الثانية، فقد نجح إلياس بازنا في أن يكون رجل الظل بعد نجاحه في اختراق السفارة البريطانية في أنقرة ونقل معظم أسرارها إلى الألمان، لكن معظم معلوماته الاستخباراتية لم يتم التعامل معها على محمل الجد.
إلياس بازنا التركي الذي خدع البريطانيين بسبب المال
وُلد إلياس بازنا في 28 يونيو/حزيران 1904 بمدينة بريشتينا عاصمة إقليم كوسوفو الحالي، والتي كانت في السابق جزءاً من الإمبراطورية العثمانية.
طيلة 40 عاماً كان بازنا يعيش حياة متجولة بلا هدف واضح، فقد التحق في صغره بأكاديمية عسكرية، وانضم إلى وحدة عسكرية فرنسية في سن السادسة عشرة، قبل أن يتحوّل إلى سارقٍ للأسلحة والسيارات، حيث دخل السجن وعمل في معسكر العمل الجنائي في فرنسا.
ولعلّ أبرز ميزةٍ اكتسبها إلياس بازنا طيلة هذه الفترة كانت إتقانه عدة لغات، مثل الفرنسية والصربية والتركية والإنجليزية.
وفي أحد أيّام عام 1943، وبينما كانت الحرب العالمية الثانية في ذروتها، أتت إلى إلياس بازنا فكرة ستغيّر حياته إلى الأبد، بينما كان جالساً يقرأ الجريدة ويشرب القهوة في صالة فندق أنقرة بالاس، ظهرت لبازنا فكرة مثيرة تتعلق بقيامه بسرقة أسرار قيّمة من بريطانيا وبيعها لخصومها مقابل مبلغ ضخم يستطيع العيش به لاحقاً.. مباشرةً قصد إلياس بازنا السفارة البريطانية في أنقرة لتقديم طلب للحصول على وظيفة للعمل داخلها، ولحسن حظّه كان هناك منصب سائق شاغراً في السفارة.
في أبريل 1943، وجد بازنا نفسه خادماً للسفير البريطاني السير Hughe Knatchbull ‐ Huges sen في أنقرة، الذي وثق به وجعله رجل الظل الخاص به.
كادت معلوماته الاستخبارية أن تغيّر مجرى الحرب
مما سهّل عمل إلياس بازنا هو سلوك السير هوغي غير الرسمي تجاه الأمن، فقد كان من المفترض أن يتبع الدبلوماسيون البريطانيون لوائح صارمة لحماية المستندات الحساسة، بما في ذلك إبقاؤها في خزائن مغلقة في مكاتبهم الرسمية الخاضعة للحراسة. لكن السير هوغي فضَّل اصطحاب عمله معه إلى المنزل، محتفظاً بوثائق سرية للغاية في خزانته الشخصية، مما سهّل عمل بازنا كثيراً.
ومع سهولة الوصول إلى غرف السفير الخاصة وخزانته السرية، قام إلياس بازنا بنسخ الأوراق السرية المحفوظة هناك للمخابرات الألمانية. ولعدة أشهر قام بتزويد الألمان بعشرات المستندات، بما في ذلك البرقيات بين تشرشل وروزفلت وستالين بشأن خطط لهجمات الحلفاء.
بدأ بازنا عمله التجسسي لفائدة الألمان خلال مؤتمر موسكو عام 1943 لوزراء خارجية الحلفاء الذين اجتمعوا لتحديد سياسات ما بعد الحرب ولحل الخلافات داخل التحالف المناهض لهتلر.
قدمت الوثائق المسربة من أنقرة بفضل بازناً معلوماتٍ عن بيانات خلفية المؤتمر ونقاط الضعف والمشاكل البريطانية التي تم الكشف عنها خلال المحادثات.
وصف Moyzisch الملحق الدبلوماسي بالسفارة الألمانية في أنقرة لاحقاً هذه المعلومات وغيرها من المعلومات التي قدمها شيشرو بأنها "… تقارير تتعلق بالمسائل السياسية والعسكرية ذات الأهمية القصوى".
كان بازنا يقدّم المعلومات إلى الألمان مقابل مبالغ مالية كبيرة، فقد منح له الألمان مبلغ 840 ألف دولار إلى 1.5 مليون جنيه إسترليني مقابل المعلومات التي قدّمها على دفعات.
تمركزت المعلومات المهمة والسرية التي قدمها Elyesa Bazna إلى النازيين حول المؤتمرات التي عقدها قادة الحلفاء أثناء الحرب، بما في ذلك مؤتمرات موسكو ومؤتمر طهران ومؤتمر القاهرة.
ووفقاً لـ nytimes، كانت تفاصيل مؤتمر طهران التي قدّمها بازنا مهمة لتنفيذ عملية الوثب الطويل التي خطّط لها هتلر شخصياً، وهي الخطة الفاشلة لاغتيال كلٍ من فرانكلين روزفلت، وجوزيف ستالين، ونستون تشرشل.
كما قام بازنا أيضاً بنقل مستند يحمل أعلى قيود الأمان حول عملية أوفرلورد، وهو الاسم الرمزي لإنزال النورماندي الذي حصل في يونيو/حزيران 1944، والذي خسر بسبب الألمان فرنسا.
تضمنت المعلومات الاستخبارية التي قدمها الجاسوس الألماني في أنقرة Elyesa Bazna أن السفير البريطاني طلب استخدام القواعد الجوية التركية من أجل الحفاظ على تهديد للألمان من شرق البحر المتوسط حتى إطلاق عملية أوفرلورد.
لم يكن الألمان يعرفون معلومات عن غزو النورماندي إلا بعد تنفيذها، ولو تم التعامل مع معلومات بازنا الاستخباراتية في الوقت المناسب، لكانت عملية أوفرلورد قد تعرضت للخطر.
رغم ذلك، مات إلياس بازنا مفلساً
ومع اقتراب نهاية الحرب، شعر Elyesa Bazna أنه لم يعد بإمكانه تقديم المزيد من المعلومات إلى الألمان، خصوصاً بعد الاشتباه به من قِبل البريطانيين، فقرر الاستقالة وغادر السفارة إلى الأبد، من أجل أن يبدأ حياته الجديدة.
لكنه اكتشف بعد ذلك أنه تعرّض للخداع من قِبَل الألمان، فقد وجد أنّ أكثر من 300 ألف جنيه إسترليني كان قد حصل عليها من الألمان كانت بلا قيمة ومزورة، وذلك حينما أراد شراء فندق في أنقرة، ليقضي عقوبة السجن لفترة وجيزة بتهمة التزوير، وذلك وفقاً لـ allthatsinteresting.
عاش بازنا بعدها في أنقرة مع عائلته لسنوات عديدة، وانتقل إلى ميونيخ في عام 1960 من أجل استرجاع حقوقه كجاسوس ألماني خلال الحرب العالمية الثانية، لكنّ الحكومة الألمانية لم تعترف بخدماته. ليكمل حياته عاملاً كحارس ليلي قبل أن يموت في 24 ديسمبر/كانون الأوّل عام 1970 بسبب مرض الكلى، وقبل أن يموت مفلساً، نشر بازنا مذكراتٍ حول عمله التجسسي في عام 1962.في 2019، تمّ تحويل مذكراته الشخصية إلى فيلمٍ بعنوان "عملية شيشرو" الذي يحكي سيرته في عالم الجاسوسية.