مع مطلع شهر ديسمبر/كانون الأول 1952، اجتاحت موجة برد شديدة العاصمة البريطانية لندن الشهيرة بمدينة الضباب، الأمر الذي جعل سكان لندن يشعلون المدافئ التي تعمل بالفحم في منازلهم، كما قامت الشركات بتشغيل مواقدها الفحمية من أجل التخلص من الهواء البارد، وهي مقدمات لحدوث أكبر تلوث هوائي في تاريخ أوروبا، وهو الضبخان الكبير (Great Smog of London).
وبمرور الوقت، بدأت سحب من الضباب الكثيف في الالتفاف على ساعة بيغ بن وكاتدرائية القديس بولس وجسر لندن ومعالم المدينة الأخرى، ولم يكن حينها ذلك غريباً على سكان لندن الذين اعتادوا الضباب الأبيض الكثيف والبارد.
في غضون ساعات قليلة، بدأ الضباب يتحول إلى ظل قاتم من اللون البني المصفر، حيث اختلط الضباب بآلاف الأطنان من السخام التي تضخها المداخن والسيارات في الهواء.
ومع ذلك، استمر يومها سكان لندن في حياتهم الطبيعية، متجاهلين الضباب الكبير والهواء الأسود، لكن في غضون يوم واحد، أصبح من المستحيل تجاهل الأزمة المتفاقمة.
الضبخان الكبير.. الكارثة التي سلطت الضوء على خطر الفحم في بريطانيا
قبل كارثة الضبخان الكبير 1952، عانت لندن طويلاً من الهواء الملوّث، بدءاً من الروائح الكريهة التي انطلقت من مياه الصرف الصحي الملوثة في نهر التايمز في خمسينيات القرن التاسع عشر، إلى "حساء البازلاء" الملحمي في المدينة، وصولاً إلى الانبعاثات من المصانع ومواقد التدفئة التي أدت إلى ظهور ضباب أخضر فوق الشوارع، وهو الأمر الذي حدا بالدكتور هارولد أنطوان دي فو إلى ابتكار مصطلح "الضباب الدخاني"، أو "الضبخان" الذي يجمع بين "الدخان" والضباب"، من أجل وصف هواء المدينة، وذلك بحسب nationalgeographic.
في ذلك الوقت، كانت بريطانيا عملاقة في إنتاج الفحم، إذ بلغت صناعة الفحم ذروتها في عام 1913، وذلك عندما أنتجت بريطانيا ربع إجمالي الفحم العالمي، وهو رقم مذهل يبلغ 292 مليون طن.
وعلى الرغم من أن العالم تحول إلى النفط خلال الحربين العالميتين الأولى والثانية، إلا أن صناعة الفحم البريطانية نجت جزئياً، كون البريطانيين كانوا لا يزالون يستخدمون الفحم لتدفئة منازلهم.
كانت فكرة موقد الفحم المفتوح في المنزل شائعة في لندن، في عام 1942 وجدت إحدى الدراسات الاستقصائية أن 78% من البريطانيين كانوا يستخدمون الفحم للتدفئة.
وعلى الرغم من محاولة الحكومة الحد من استعمال البريطانيين للفحم، إلا أنه كان عليها انتظار كارثة الضبخان الكبير من أجل حسم هذه الإشكالية، والتخلص من الفحم.
ضباب لندن يتحول إلى الضبخان الكبير
بحسب موقع history، لم يكن الضبخان شيئاً جديداً في لندن، ولكن هذا الضباب الدخاني الخاص الذي ضرب لندن 1952، سرعان ما تحول إلى هواءٍ سامٍ، على عكس أي شيء شهدته المدينة على الإطلاق قبل ذلك.
فعندما قام سكان لندن بإشعال مداخنهم لمواجهة الشتاء البارد في ديسمبر/كانون الثاني 1952، ظهر نمط طقس من شأنه أن يحول دخان الفحم إلى ضباب قاتل.
في مساء يوم 5 ديسمبر/كانون الثاني، ومع درجات حرارة تقترب من 32 درجة، ارتفعت حرارة ودخان حرائق الفحم في الغلاف الجوي كما هو الحال دائماً.
في يوم الشتاء العادي، كانت كتل الضباب ترتفع وتبرد في الجو البارد قبل أن تنطلق بعيداً، لكن في ذلك اليوم حدث العكس.
فبسبب نظام الطقس عالي الضغط المعروف باسم الإعصار المضاد، توقفت بطانية من الهواء الدافئ الرطب فوق لندن، دافعة الهواء نحو الأرض.
في تلك اللحظة، أدت درجات الحرارة الباردة إلى تكثيف بخار الماء في الهواء وتحويله إلى ضباب، وهي ظاهرة طقس معروفة باسم انعكاس درجة الحرارة، الأمر الذي أدى إلى محاصرة انبعاثات الحرائق فوق المدينة.
شلّ لندن وتسبب في مقتل الآلاف
كان الضباب الدخاني الذي عصف بلندن سنة 1952، والمعروف باسم "الضبخان الكبير"، كثيفاً لدرجة أن السكان في بعض أجزاء المدينة لم يتمكنوا من رؤية أقدامهم أثناء سيرهم.
ولمدة 5 أيام، شل الضبخان الكبير لندن، وأوقف جميع وسائل النقل، باستثناء نظام قطار أنفاق لندن.
وبحسب مكتب الأرصاد الجوية البريطاني، فإن سماكة الضباب وصلت إلى 200 متر، ومع كل يوم بارد، ينبعث من ملوثي المدينة ما يصل إلى ألف طن من الدخان و2000 طن من ثاني أكسيد الكربون يومياً.
أحصت الحكومة 3000 حالة وفاة، بسبب الضبخان الكبير، لكن الواقع كان أكثر خطورة؛ إذ أشارت إحصائيات أخرى إلى أضعاف ذلك الرقم.
في عام 2012، حلل الباحثون المصادر التاريخية لتحديد العدد الحقيقي للوفيات الناجمة عن الضبخان الكبير، ووجدوا أنه تسبب في وفاة أكثر من 12 ألف حالة.
وقد تجاوزت التأثيرات بكثير الضباب الدخاني نفسه، فقد كان الأطفال الذين تعرضوا للضباب الدخاني خلال السنة الأولى من حياتهم أكثر عرضة بنسبة 20% للإصابة بمرض الربو أثناء الطفولة و9.5% أكثر عرضة للإصابة به عند البالغين.
بعد تلك الكارثة، أصبحت خطورة تلوث الهواء في لندن حقيقة لا يمكن إنكارها، إذ قامت الحكومة البريطانية في النهاية بإقرار قانون الهواء النظيف بعد 4 سنوات من الضبخان الكبير.
وفقاً لدائرة المعارف البريطانية، أنشأ القانون مناطق خالية من المدخنات في المصانع في جميع أنحاء المدينة، وقيد حرق الفحم في المدافئ المنزلية وكذلك في الأفران الصناعية.
علاوة على ذلك، تم تقديم منح لأصحاب المنازل تسمح لهم بالتحول إلى مصادر التدفئة المختلفة، مثل النفط والغاز الطبيعي والكهرباء.
وعلى الرغم من أن التغيير كان تدريجياً، إذ حدثت أزمة ضباب دخاني أخرى في عام 1962، إلا أن قانون الهواء النظيف يعتبر بشكل عام حدثاً رئيسياً في تاريخ حماية البيئة ببريطانيا، وقد ساعد في تحسين الصحة العامة في بريطانيا، كما حدت أوروبا بأكملها حذو بريطانيا في السنوات القادمة.
لكن ما سبب الضبخان الكبير في لندن؟
كان التفسير الأولي لحدوث الضبخان الكبير هو الفحم، وانبعاث ثاني أكسيد الكربون من المواقد ومداخن المصانع، واستمرّ هذا التفسير لعقودٍ من الزمن.
غير أنّ حدوث حالة أخرى من هذه الكارثة البيئية في الصين، جعل العلماء يفكرون أنّ السبب يعود إلى شيء آخر.
وبالاعتماد على البيانات التي جمعها الباحثون من تلوث مماثل حصل في الصين، توصلوا إلى أن هذا الحدث الكارثي كان نتيجة لجزئيات حمض الكبريتيك الذي اختلط بالضباب الطبيعي ليغطي المدينة بأكملها بالضباب القاتل.
وفي هذا الصدد، أشار رينيه تشانغ، وهو أستاذ الكيمياء في جامعة "Texas A&M" وجامعة "Harold J.Haynes Chair of Atmospheric Sciences"، إلى أن "الناس لم يعرفوا أن الكبريتات كانت مساهماً كبيراً في نشأة الضباب، وأن جزيئات حمض الكبريتيك تشكلت من ثاني أكسيد الكبريت الصادر عن احتراق الفحم المستخدم من قبل السكان ومحطات توليد الطاقة وغيرها من الوسائل"، وأضاف تشانغ أنه لم يتضح بعد كيفية تحول ثاني أكسيد الكبريت إلى حمض الكبريتيك.