شهدت فترة ارتباط الجزائر بالدولة العثمانية ظهور عدّة شخصياتٍ بارزة، عاش بعضها حياةً مثيرة واكتسب شهرةً واسعة في زمانه، إن كان بسبب إنجازاته العسكرية في الجهاد البحري أو بسبب سياساته الداخلية، ومن بين تلك الشخصيات الداي محمد بن عثمان باشا، الذي يعدّ أكثر دايات الجزائر مكوثاً في الحكم، إذ حكم محمد بن عثمان لمدة 25 سنة، بدأها من سنة 1766، ولم تنتهِ سوى بوفاته في 12 يونيو 1791.
ما ميّز حكم هذا الرجل أنّه كان من أكثر الدايات شهرة، ليس فقط لكونه مكث في الحكم طويلاً، لكن سياساته الداخلية في التعامل مع الإنكشارية ورياس البحر، وإبعادهم عن الحكم بطريقةٍ ذكية، وسياساته الخارجية بمنع التدخل في شؤون الجزائر، علاوة على تعامله الحسن مع رعيته؛ كل ذلك مكنه من الفوز بقلوب الجزائريين.
غير أنّ المثير في قصة هذه الشخصية، هو أنّ كلّ تلك الإنجازات بدأت بصدفةٍ أو خطأ كما يصفه بعض المؤرخين، فقد كان محمد بن عثمان قبل أن يصير داياً مجرد جنديٍّ بسيط، قبل أن تتحول حياته كلياً بقرارٍ من الداي السابق علي بابا.
محمد بن عثمان باشا، الجندي الذي صار حاكماً للجزائر بالخطأ
لا يعرف الكثير عن حياة محمد بن عثمان المبكرة سوى أنّه ولد سنة 1710م في قرية صغيرة تقع في كهرمان مرعش بالأناضول، لعائلة محافظة ومتعلمة، وهو الأمر الذي ساعده في تكوين شخصية مثقفة ومتعلمة، وذلك وفق رسالة ماجستير جامعية بعنوان: "الجزائر في عهد الداي محمد بن عثمان باشا 1766-1791م".
انضمّ محمد بن عثمان إلى صفوف الأوجاق، وقدم إلى الجزائر، وهناك ظلّ محمد بن عثمان لسنوات مجرد جنديّ بسيط، حتى مرض الداي بابا علي، والذي طلب من مقربيه استقدام أحد الأعوان يدعى محمد بن عثمان من أجل تكليفه بمهامٍ رفيعة.
كان اختيار مقربي الداي هو الجندي محمد بن عثمان، والذي دخل على الداي علي بابا، لكن الأخير اكتشف أنّ محمد بن عثمان ليس الشخص الذي يقصده، وأنه مجرد جندي بسيط، فقام بطرده، ومن ثمّ أعاد استدعاءه مرة أخرى، وقَبِلَ تكليفه ببعض المهام لتجريبه.
نجح محمد بن عثمان في إثبات جدارته وبدأ يفوز بثقة الداي علي بابا الذي عيّنه في منصب الخزناجي، وصار بمثابة نائبٍ له.
وحين استعصى مرض الداي بابا علي، كان محمد بن عثمان بمثابة الحاكم الفعلي الذي نجح في إفشال التمردات العسكرية ضد الداي، ومنع أية محاولة انقلابية عليه، الأمر الذي جعل الداي بابا علي بوصبع يكافئ عليه محمد بن عثمان بتعيينه داياً على الجزائر سنة 1766، وهو في سنّ الخامسة والعشرين.
نجح في إقصاء الإنكشارية ورياس البحر عن الحكم
وفقاً لمقال أكاديمي بعنوان: "الداي محمد بن عثمان باشا وسياساته"، استمرت محاولات التمرد عليه حتى بعد جلوسه على كرسي الحكم، فقد كان الكثير من أفراد الإنكشارية متعجبين من طريقة صعوده من جندي إلى صاحب الأمر والنهي بالجزائر، غير أنّ محمد بن عثمان واصل التصدي لكلّ محاولات التمرد والانقلاب.
كان التمرد العسكري الذي حدث بعد سنةٍ واحدة من توليه الحكم، قراراً حاسماً ساعد محمد بن عثمان في البقاء بالحكم لسنواتٍ طويلة، فقد استغل محمد بن عثمان باشا تلك المحاولة من أجل منع دخول أي شخصٍ إلى القصر بالسلاح، كما طلب حراس القصر تفتيش أي شخصٍ يدخل عليه.
ساعد ذلك القرار في عودة الاستقرار إلى الجزائر، وبدأ بعدها محمد بن عثمان في استئناف نشاط البحرية الجزائرية، من خلال تدعيم الأسطول الجزائري وتجديده، وذلك من أجل منع رياس البحر من التدخل في شؤون الحكم وإشغالهم في الجهاد البحري وحماية الجزائر من الهجمات الأوروبية.
أما محلياً فقد قام محمد بن عثمان باشا بتولية صالح باي على بايلك الشرق، وتعيين الباي محمد الكبير حاكماً على بايلك الغرب، وهما من أكفأ الشخصيات الإدارية والعسكرية في تاريخ الجزائر العثمانية.
أفشل الغزو الإسباني للجزائر وخاض حرباً مع الدنمارك والنرويج
بحسب كتاب: "محمد عثمان باشا، داي الجزائر 1766-1791"، للمؤرخ الجزائري أحمد توفيق المدني، فبعد عودة البحرية الجزائرية إلى قوتها، وبسطها سيطرة مطلقة على غرب المتوسط، عادت التوترات لتطبع العلاقات بين الجزائر والدول الأوروبية، وذلك بعد أن طلب الداي محمد بن عثمان باشا زيادة الضرائب على السفن الدنماركية والنرويجية من أجل إنعاش الخزينة الجزائرية، تسبب ذلك القرار في حرب بين الجزائر ومملكتي الدنمارك والنرويج، بعد رفض طلب الجزائر.
ففي سنة 1769، أبحرت سفن الدنمارك والنرويج بشكل استفزازي في البحر المتوسط، الأمر الذي أدى إلى احتجاز البحرية الجزائرية لـ3 سفن وبيع طاقمها في سوق العبيد، وهو الأمر الذي أغضب الدنمارك والنرويج اللتين أعلنتا الحرب على الجزائر.
وفي 1770، أبحر الأسطول الدنماركي والنرويجي مدعماً بسفنٍ أوروبية أخرى من أجل قصف الجزائر، لكن الهجوم أبى بالفشل بعد أن تفشى مرض التيفود في السفن الدنماركية والنرويجية، ورغم ذلك، حاصرت تلك السفن الجزائر لسنتين، قبل أن تنتهي بالرضوخ إلى شروط محمد بن عثمان باشا بزيادة قيمة الضرائب.
وفي 8 يوليو 1775، أمر ملك إسبانيا تشارلز الثالث قائد أسطوله ألكساندر أوريلي بقيادة حملة عسكرية مكونة مما يقرب من 50 سفينة وأكثر من 20 ألف جندي من أجل غزو الجزائر، لكنّ تلك الحملة باءت بالفشل بعد أن تصدى لها الداي محمد بن عثمان باشا شخصياً، وكلّف الأسطول الإسباني خسائر فادحة، جعلهم لا يعيدون التفكير مرة أخرى في الهجوم على الجزائر، فقد كانت تلك الحملة آخر حملة عسكرية إسبانية ضد الجزائر.
مات دون تحقيق حلمه في تحرير وهران
عمل محمد بن عثمان لسنواتٍ طويلة من أجل تحقيق حلمه في تحرير وهران من الاحتلال الإسباني؛ فقد قاد بنفسه عدة حملات عسكرية لتحرير وهران، وأطبق حصاراً خانقاً على المدينة لسنوات، حتى إنه أصيب برصاصة في رجله في حصار وهران سنة 1785، جعلته يعرج حتى لُقب بالأعرج.
ودخل في مفاوضاتٍ طويلة مع الإسبان من أجل طردهم من المدينة لكنها فشلت، بعد أن أصرّ محمد بن عثمان باشا أنّ يخرج الإسبان من وهران دون أية شروط.
وفي خضمّ عملية تحرير وهران بقيادة الباي محمد الكبير، أصيب محمد بن عثمان باشا بمرضٍ مفاجئٍ عجّل من وفاته في 11 يوليو 1791، وقبل سنة واحدة من تحرير وهران من الاحتلال الإسباني، غير أنه كان أحد أشهر دايات الجزائر وأكثرهم عدلاً بحسب المؤرخين.