يصادف الـ11 من يوليو/تموز، من كل عام ذكرى واحدة من أبشع المجازر التي ارتكبها الغرب بحق المسلمين بعد الحرب العالمية الثانية، وهي "مجزرة سربرنيتسا" التي ارتكبها الجزار الصربي راتكو ملاديتش في البوسنة والهرسك.
القصة كاملة لهذه المجزرة في هذا التقرير:
قصة مجزرة سربرنيتسا
في 6 أبريل/نيسان 1993، أصدر مجلس الأمن الدولي القرار رقم 819، الذي أعلن أن سربرنيتسا وما يحيطها على مسافة 50 كيلومتراً ستكون منطقة آمنة تحت حماية الأمم المتحدة، ورغم أنها وعدت سكان سربرنيتسا بأنهم سيكونون آمنين، فإن وعودهم سقطت أمام القوات الصربية التي قررت اتباع نهج الإبادة الجماعية بحق المسلمين في المنطقة.
القصة بدأت منذ 1 مارس/آذار 1992، عندما أعلنت البوسنة والهرسك استقلالها عن جمهورية يوغوسلافيا الاتحادية الاشتراكية، بعد استفتاء شعبي قاطعه السكان الصرب في البوسنة.
نالت جمهورية البوسنة والهرسك اعتراف الاتحاد الأوروبي في 6 أبريل/نيسان 1992، واعتراف الولايات المتحدة في اليوم الذي تلاه، بينما رفضت الحكومة الصربية الاعتراف بالاستقلال.
هذا الاعتراف الدولي لم يكن كافياً لوقف الصراع الناشئ في المنطقة، حيث بدأ صراع عنيف للسيطرة على الأراضي بين أكبر 3 مجموعات عرقية في البوسنة والهرسك، وهي:
- البوشناق.
- الكروات.
- الصرب.
حاول الصرب إخراج البوشناق من الأراضي في محاولة لخلق "صربيا الكبرى" وهي سياسة تُعرف بالتطهير العرقي، وفقاً لما ذكرته شبكة BBC البريطانية.
وعليه، فقد هاجمت قوات صرب البوسنة، تدعمها الحكومة الصربية بقيادة الرئيس الصربي سلوبودان ميلوسيفيتش والجيش الشعبي اليوغسلافي، أراضي البوسنة والهرسك تحت دعوى توحيد الأراضي الصربية.
وقد خلَّف هذا الهجوم حملات إبادة وتطهير عرقي ضد المسلمين البوشناق، وعليه فقد لجأ مسلمو البوسنة إلى استخدام السلاح من أجل صد القوات الصربية والدفاع عن أنفسهم.
في تلك الفترة حاول المجتمع الدولي، أن يحل السلام في المنطقة من خلال العديد من المبادرات والمحاولات الدبلوماسية، لكنها جميعها باءت بالفشل، أو بالأحرى حققت نتائج محدودة جداً لم تستطع إنقاذ المنطقة من الحرب، لا سيما الجزء الشرقي من البوسنة، وتحديداً مدينة سربرنيتسا الواقعة قرب الحدود مع صربيا، إذ كان القتال هناك شرساً بشكل خاص بين البوشناق (المسلمين) والصرب (المسيحيين).
وقد استطاعت القوات صرب البوسنة الاستيلاء على سربرنيتسا التي تعني باللغة البوسنية "أرض الفضة"، عام 1992 لكن الجيش البوسني استعادها بعد فترة وجيزة، تلا ذلك حصار مع اشتباكات بين الجانبين.
ولمن لا يعرف البوشناق، فهم من المسلمين الذين ينحدرون من السلاف البوسنيين الذين اعتنقوا الإسلام في ظل الحكم التركي العثماني في العصور الوسطى.
قرار عقيم من الأمم المتحدة، واتفاق بمثابة "الانتحار" للبوشناق!
بعد عدة شهور من المعارك الشرسة بين البوشناق والصرب، أصدر مجلس الأمن قراره رقم 819 في 16 أبريل/نيسان 1993، لحماية سكان سربرنيتسا التي كان نحو 75% من سكانها من المسلمين وفقاً لإحصاء عام 1991.
ونص القرار حينها على أنه يجب معاملة جميع الأطراف المعنية داخل مدينة سربرنيتسا والمناطق المحيطة بها، منطقة آمنة، ويجب أن تكون خالية من أي هجوم مسلح، أو أي عمل عدائي آخر.
وبعدها بيومين فقط، وصلت أول مجموعة من أفراد قوات الحماية التابعة للأمم المتحدة، والتي كان معظمها من الجنود الهولنديين.
وفي الشهر التالي، مايو/أيار تمّ التوصل لاتفاق بين البوسنيين والصرب وتحديداً بين الجنرال البوسني سيفير خليلوفيتش، ونظيره الصربي راتكو ملاديتش، والذي ينص على تسليم الجنود البوسنيين أسلحتهم وذخائرهم إلى قوة الحماية التابعة للأمم المتحدة.
بالمقابل، ستقوم القوات الصربية الموجودة قرب المدينة بسحب جميع وحداتها وأسلحتها وآلياتها الثقيلة من محيط المدينة التي يفترض أنها "منزوعة السلاح".
هذا الاتفاق كان بمثابة انتحار للبوسنيين المخدوعين، فعلى الرغم من تسليمهم لكامل أسحلتهم وذخائرهم، فإنّ القوات الصربية لم تلتزم بالاتفاق، ولم تسحب أياً من آلياتها الثقيلة، وواصلت حصار المدينة، وحاولت بين الفينة والأخرى مهاجمة مواقع البوسنيين في المدينة.
وبرر الصرب سبب نقضهم للاتفاق أنّ لديهم معلومات استخباراتية، تفيد بأن البوسنيين لم يسلموا سوى أسلحتهم القديمة واحتفظوا بالجديدة.
وبحلول أوائل عام 1995، أمر الرئيس الصربي آنذاك، رادوفان كاراديتش، بغلق آخر الأبواب في وجه المسلمين البوشناق، وقرر إيقاف جميع قوافل المعونات الإنسانية عن الوصول إلى مدينة سربرنيتسا، وبعدها بدأ مسلمو البوسنة يموتون جوعاً.
وذلك تحت مرأى ومسمع من قوات الأمم المتحدة، التي لم تستطع حينها مساعدة سكان تلك المناطق، حتى أنها أيضا كانت تعاني من نقص مواردها من الغذاء والأدوية والذخيرة والوقود، لدرجة أنّهم اضطروا في نهاية المطاف إلى البدء في تسيير دورياتهم سيرا على الأقدام، كما ولم يُسمح للجنود الهولنديين الذين غادروا المنطقة في إجازة بالعودة مُجدداً.
بداية مجزرة سربرنيتسا
في مارس/آذار 1995، وعلى الرغم من ضغوط المجتمع الدولي من أجل إنهاء الحصار، فإن رادوفان كاراديتش، رئيس جمهورية ما يسمى بـ"صرب البوسنة"، أصدر توجيهاً لجنوده أطلق عليه اسم "التوجيه 7″، طالبهم فيه باستكمال عمليات الفصل بين سربرنيتسا وقرية شيبا الواقعة في جمهوريته، وطالبهم بمنع حدوث أي تواصل بين المنطقتين.
في 6 يوليو/تموز 1995، هاجمت قوات صرب البوسنة بقيادة الجنرال الذي الشهر باسم "جزار البلقان" راتكو ملاديتش، مدينة سربرنيتسا بشكل جدي، مما دفع قوات الأمم المتحدة إلى الانسحاب من المدينة، فيما لم تقدم الضربات الجوية لحلف شمال الأطلسي، التي استُدعيت للمساعدة، سوى إبطاء تقدم القوات الصربية بشكل بسيط وفقاً لما أكده الموقع الرسمي لمجزرة سربرنيتسا على الإنترنت.
وفي 9 يوليو/تموز هاجمت القوات الصربية مركز المراقبة التابع لقوات حفظ السلام الهولندية، واحتجزت 30 جندياً رهائن، وفي اليوم التالي قصفت القوات الصربية سربرنيتسا وارتكبت أعمال قتل وترويع بحق سكانها العزَّل، وراح ضحيتها أكثر من 8 آلاف قتيل.
لتستدعي الكتيبة الهولندية التابعة للأمم المتحدة، بقيادة توماس كارمينس، الدعم من قوات الناتو، وفي اليوم التالي، قصفت طائرات الناتو دبابات القوات الصربية، ولكنَّ الصرب هددوا بقتل الجنود الهولنديين في حال استمرار القصف، وعليه توقفت الضربات الجوية.
وفي اليوم التالي، وتحديداً في 11 يوليو/تموز 1995، سقطت مدينة سربرنيتسا بعد أن سلمت قوات حفظ السلام جميع مراكز المراقبة وحواجز الحراسة دون أدنى مقاومة ومن دون القيام بأي محاولة تُذكر لحماية المدنيين العزل، ليسير الجنرال ملاديتش رفقة جنرالات آخرين وسط المدينة.
بينما فر نحو 20 ألف لاجئ مسلم إلى القاعدة الهولندية الرئيسية للأمم المتحدة.
تطهير عرقي ممنهج بأمر من أعضاء هيئة الأركان الصربية
عمليات الإبادة الممنهجة، بدأت في اليوم التالي من دخول ملاديتش وجنوده مدينة سربرنيتسا، عندما هاجموا اللاجئين المسلمين البوشناق في حافلات الإخلاء المتواجدة في بلدة دونيي بوتوتشاري القريبة.
قامت قوات الصرب، وبأوامر مباشرة من أعضاء هيئة الأركان الرئيسية للجيش الصربي، بعمليات تطهير عرقي ممنهجة ضد البوشناق؛ إذ عزلت الذكور الذين تتراوح أعمارهم بين 14 و50 عاماً عن النساء والأطفال والشيوخ، وكُدسوا في المستودعات والحظائر والمدارس في المنطقة الواقعة خارج سربرنيتسا، ثم أُطلق عليهم الرصاص وأُلقيت جثثهم بمقابر جماعية، وبعدها قامت القوات الصربية بالتمثيل بجثثهم من أجل إخفاء الجريمة واغتُصبت النساء.
بداية; قامت قوات الصرب وبأوامر مباشرة من أعضاء هيئة الأركان الرئيسية للجيش الصربي، بعمليات تطهير عرقي ممنهجة ضد البوشناق.
إذ قاموا بفصل الذكور الذين تتراوح أعمارهم بين 14 و50 عاماً عن النساء والأطفال والشيوخ، وكُدسوا في المستودعات والحظائر والمدارس في المنطقة الواقعة خارج سربرنيتسا، ثم أُطلق عليهم الرصاص، وأُلقيت جثثهم بمقابر جماعية.
ووفقاً لـBBC فإنّ تقارير تشير إلى البعض دُفنوا وهم أحياء، بينما أجبر بعض الكبار على مشاهدة أطفالهم وهم يُقتلون، في غضون ذلك، تم إخراج النساء والفتيات من طوابير الإجلاء من أجل اغتصابهن.
في المقابل لم يقم الجنود الهولنديون الذين تعرضوا للعدوان الصربي، وهم قليلو التجهيز، بأي شيء لحماية البوشناق، بل قاموا بتسليم حوالي 5000 مسلم كانوا يحتمون في قاعدتهم أيضاً.
قوات الأمم المتحدة لم تقم بواجبها
بعد سنوات من المذبحة، رفع أقارب ضحايا المذبحة قضية تحت اسم "أمهات سربرنيتسا"، وحكمت المحكمة العليا الخاصة في هولندا 2014، ومقرها في لاهاي، بأن كتيبة قوات حفظ السلام الهولندية لم تقم بواجبها لحماية ما يزيد على 300 شخص من البوشناق، وكان ينبغي لتلك القوات أن تعلم أن تسليم الرجال إلى قوات الصرب سوف يؤدِّي إلى قتلهم.
تجدر الإشارة إلى أن المحكمة الهولندية قضت بمسؤولية هولندا عن قتل 300 شخص فقط وتبرئتها من قتل ما يزيد على 7000 آخرين، وذلك بحجة أن هؤلاء لم يحتموا بقاعدة الأمم المتحدة، وإنما احتموا بالغابات القريبة.
جزّار البلقان راتكو ملاديتش المسؤول الأول عن مذبحة سربرنيتسا
كان راتكو ملاديتش صربياً من ناحية العرق، لكنّه وُلد في العاصمة البوسنية سراييفو، وكان حينها قائداً لجيش صرب البوسنة بعد المجازر التي ارتكبها بحق الكرواتيين.
أثناء قيادته لتلك القوات ارتكب مجازر عديدة ممنهجة، ففي العاصمة البوسنية سراييفو نشر قنّاصة يحوِّطون بعض الأماكن ليقتلوا المدنيين، كما قصف العاصمة بالقنابل والصواريخ، ما أسفر عن مقتل حوالي 10 آلاف شخص مدني، منهم 1601 طفل قتلوا وهم يلعبون فقط أمام بيوتهم وفي مدارسهم.
وبالإجمال شملت جرائم راتكو ملاديتش ضدّ المسلمين البوسنيين حوالي 15 بلدية داخل البوسنة، لكنّ أبرز تلك المجازر وأبشعها كانت مذبحة سربرنيتسا.
بعد كلّ هذه المجازر عاش راتكو ملاديتش حراً طيلة 16 عاماً، عاش فيها بشكل اعتيادي رغم اتهامه من قبل المحكمة الدولية في لاهاي بتهم ارتكاب جرائم حرب.
ويقال إنّه كان يعيش بحرية تامة متنقلاً بين صربيا وروسيا، لكنه ألقي القبض عليه عام 2011، شمالي العاصمة الصربية بلغراد، عندما كان يستعد لممارسة رياضة المشي في الحديقة.
كانت أول لائحة اتهام ضد راتكو ملاديتش في عام 1995، عندما قدِّمت للمحكمة الجنائية الدولية، وشملت اللائحة جرائم كثيرة، إضافةً إلى جريمة الإبادة الجماعية.
استمرّت محاكمته طيلة 530 يوماً، وفي نوفمبر/تشرين الثاني 2017، أدين راتكو ملاديتش بـ10 تهم من أصل 11 تهمة وُجِّهت له، وحُكم عليه بالسجن مدى الحياة، إذ لا تعاقب المحكمة الدولية بعقوبة الإعدام. وما زال في السجن حتّى الآن، ويسعى محامو الدفاع لاستئناف حكم المحكمة، بينما يسعى محامو الضحايا لضمّ قضيةٍ أخرى برّأته منها المحكمة.
انتقموا منا لأننا مسلمين!
الكاتبة والصحافية البوسنية، عذرا عمربزيتش، أكدت أنّ البوشناق البوسنيين كانوا مذنبين في عيون صرب البوسنة، لأنهم كانوا مسلمين فقط، ورغم أن البوشناق وثقوا بهم، فإن الصرب خانوا تلك الثقة.
وقالت في مقال نشرته في "عربي بوست": منذ 28 عاماً عُرفت سربرنيتسا بأنها المدينة "الأكثر حزناً" في البوسنة، بدأ كل شيء في 11 يوليو/تموز عندما دخل راتكو ملاديتش، المعروف باسم "الجزار الصربي"، إلى مدينة سربرنيتسا، التي أعلنتها الأمم المتحدة منطقة آمنة، مع جنوده المسلحين قائلاً: "لقد حان الوقت أخيراً للانتقام من الأتراك في هذه المنطقة".
وتابعت: "تعرضت آلاف النساء للاغتصاب، وفُصل الأطفال عن أمهاتهم، بينما نفذوا أعمالاً مهينة للشرف لجميع الرجال الذين أخذوا، وأجبروهم على غناء الأغاني الصربية القومية، وأُجبروا هم على ارتكاب فظائع مثل التشويه والعنف الجسدي والجنسي وقتل بعضهم لبعض، لدرجة كان عليهم حفر مقابر جماعية ودفن أحبائهم في تلك القبور".
في المجمل، خلّفت الحرب، التي استمرت من عام 1992 إلى عام 1995 في البوسنة، حوالي 100 ألف قتيل وتسببت في طرد أكثر من مليوني شخص من منازلهم.
ووفقاً لوكالة اللاجئين التابعة للأمم المتحدة، كان ما يزال هناك 98324 نازحاً داخلياً نهاية عام 2015، منهم 7000 شخص في ملاجئ مؤقتة أو جماعية.
تقول برانكا أنتيكستاوبر، مديرة منظمة Women's Power، وهي منظمة تقدم الدعم النفسي للاجئين البوسنيين: "لم توضع أبداً استراتيجية واضحة لعودة اللاجئين البوسنيين إلى قراهم التي دمرتها الحرب. وفي بعض الأحيان، حتى بعد إعادة بناء منازلهم، كان من الصعب عليهم العودة. وجميعهم تقريباً يعانون من اضطراب ما بعد الصدمة. ونعني هنا الصدمات الأولية والمستمرة والمزمنة. فهناك نساء ما زلن يبحثن عن أفراد أسرهن المفقودين".