كثيرون منا قرأوا، أو سمعوا على الأقل، برواية روبنسون كروزو. فهذه القصة التي ألّفها البريطاني دانيال ديفو ونُشرت للمرة الأولى عام 1719، تُعتبر الرواية الأولى في الإنجليزية، وقد ألهمت العديد من المنتجين الذين حوّلوها إلى أفلام سينمائية ومسلسلات تلفزيونية.
في الرواية، نتعرّف إلى روبنسون كروزو (Robinson Crusoe)؛ ذلك الفتى المتهوّر الذي لم يفكر إلا في المغامرة، ففرّ من أهله ليختبر عالم البحار الذي كان يهواه، مذ كان مراهقاً.
غير أن الرياح تأتي بما لا تشتهي السفن، فوجد روبنسون كروزو نفسه في عزلةٍ يائسة على ساحل جزيرة مهجورة، بعد أن نجا بمفرده من حادث مروّع ابتلعت فيه مياه البحر السفينة التي كانت تقله.
فنتابع في الرواية الأحداث كما عاشها روبنسون كروزو، ذلك البائس المسكين الذي كافح وعرف المشقات قبل أن ينجح بالوصول إلى برّ الأمان.
لكن هل تعرفون أن هناك "روبنسون كروزو حقيقي"؟ وأن الرواية التي كتبها دانيال ديفو مقتبسة في الواقع عن قصةٍ حقيقية جرت في الحقبة نفسها، وبطلها كان مستعمراً وقرصاناً يسرق الكنوز من السفن المعادية الأخرى؟
نعم، هي قصة حقيقية بطلها يُدعى ألكسندر سيلكيرك، وهو بحار تحطم قاربه بالقرب من إحدى جزر تشيلي وعاش وحيداً لـ4 سنوات.
من هو روبنسون كروزو الحقيقي؟
وُلد ألكسندر سيلكيرك سنة 1676 في بلدة غلاسكو الساحلية، شرق اسكتلندا، وكان آخر عنقود العائلة الكبيرة المؤلفة من 6 أشقاء آخرين.
ووفقاً لموقع GEO، عاش ألكسندر سيلكيرك طفولته في قريةٍ للصيادين، وكان عنيفاً ومتمرداً منذ صغره. فقد كان كثير الشجار مع أقرانه، كما رفض اتباع توجيهات والده الذي كان يريده أن يتخصص -مثله- في مهنة الدباغة وصناعة الأحذية.
لكن منذ صغره أظهر الفتى انجذاباً للبحر، فكان يذهب صباح كل يوم إلى ميناء القرية لمشاهدة عبور السفن. ولما يحين المساء، كان يأخذ مكانه في إحدى الحانات للاستماع إلى قصص البحارة ومغامراتهم، ما زاد من شغفه ودفعه إلى دخول البحرية عندما بلغ 19 سنة.
بعد بضعة أعوام من السفر عبر المحيطات، التقى ألكسندر سيلكيرك عام 1703 بالمستكشف والقبطان والقُرصان الإنجليزي وليام دامبير، وانضمّ إلى طاقمه البحري الذي كان يستعد للانطلاق في رحلةٍ نحو الجنوب.
كان ويليام دامبير "قُرصاناً مُفوّضاً"، أي أنه كان يملك ترخيصاً من التاج البريطاني يسمح له بمهاجمة ونهب السفن التي تحمل أعلام الدول المُعادية، مثل السفن الإسبانية.
انطلقت رحلة سيلكيرك البحرية الأولى سنة 1703، ضمن أسطولٍ صغير مكوّن من سفينتين فقط عبرتا "رأس هورن"، آخر بقعة في جنوب أمريكا الجنوبية؛ فدخلتا المحيط الهادئ وواصلتا الرحلة صعوداً نحو الشمال، على طول ساحل القارة.
بعد عامٍ من الإبحار، لم تنجح الرحلة إلا بالقليل من عمليات القرصنة، كما تأزم الوضع أكثر مع وفاة نصف عدد البحارة العاملين بالسفينتين، نتيجة الأمراض ونقص التغذية.
في ظل تلك الظروف الصعبة، وقعت مشادات ومحاولات عدة للتمرد على قادة الأسطول الإنجليزي الصغير، كما ازداد الوضع سوءاً بعد الفشل في الاستيلاء على سفينتين تجاريتين. فشلٌ تسبب في مقتل وإصابة بعض القراصنة، وتعرّض السفينتين لأضرارٍ جسيمة.
فقرر قادة الأسطول بعد ذلك فصل السفينتين، وإبحار كل واحدة منهما في اتجاهٍ مختلف، فبقي ألكسندر سيلكيرك على متن سفينة "سينك بورتس" تحت قيادة القبطان توماس سترادلينغ.
كيف انعزل ألكسندر سيلكيرك في جزيرة مهجورة؟
توجهت سفينة "سينك بورتس" نحو أرخبيل خوان فيرنانديز في جنوب المحيط الهادئ، على بعد 675 كلم من السواحل الغربية لتشيلي، وتوقفت بجزيرة "ماس تييرا" للتزود بالمياه وما توفر من المواد الطازجة.
خلال تلك الاستراحة، وقعت مشادة بين الرجلين حين نصح سيلكيرك القبطان توماس سترادلينغ باستغلال فرصة التوقف لإجراء إصلاحات في السفينة. رفض القائد، وفضّل سيلكيرك البقاء في الجزيرة على الإبحار مُجدداً، على متن سفينة في حالةٍ سيئة.
لم يعطِ القبطان بحّاره (أي روبنسون كروزو الحقيقي) سوى مسدسٍ مع رطلٍ من البارود، إضافةً إلى فأسٍ وسكينٍ ووعاءٍ للطبخ، مع ملابس وبعض الأدوات الملاحية، إلى جانب نسخة من الإنجيل.
كان ألكسندر سيلكيرك مُحِقاً في رفضه مواصلة الإبحار على متن "سينك بورتس"، فبعد شهرٍ واحد من مغادرتها جزيرة "ماس تييرا"، غرقت في المحيط وهلك معظم ركابها.
أما الناجون القلائل من الكارثة، فقد تعرضوا للاعتقال على يد الإسبان. فأمضى توماس سترادلينغ 4 سنوات قاسية في سجن مدينة ليما، العاصمة الحالية لدولة البيرو، قبل أن يعود إلى إنجلترا مريضاً ومُفلساً.
وسردت مجلة Histoire Et Civilisations بعض التفاصيل المهمة عن الحياة التي عاشها ألكسندر سيلكيرك في جزيرة "ماس تييرا "، نقلاً عن مذكرات الرجل الذي وجده في الجزيرة وأخرجه منها؛ أي القبطان البريطاني وودس روجرز.
الـ8 أشهر الأولى كانت الأكثر قساوة، إذ عانى سيلكيرك (روبنسون كروزو الحقيقي) من الكآبة والرعب، بعدما وجد نفسه وحيداً تماماً في مثل ذلك المكان المُقفِر.
أمضى الفترة الأولى بالقرب من الشاطئ، مُتفحصاً الأفق على أمل رؤية شراع أو سفينة، وقد تغذى على القشريات والرخويات والسلاحف البحرية، ولم يكن يأكل إلا عندما يشتد به الجوع، كما لم يكن ينام إلا في حالة تعرضه للإرهاق الشديد.
وعندما حان موسم تزاوج أسود البحر، تعرض الشاطئ لاجتياحٍ كبير من الذكور العدوانيين، ما اضطر ألكسندر سيلكيرك إلى اللجوء لداخل الجزيرة. وقد كان ذلك الأمر مناسبة لتغيير وضعه المعيشي نحو الأفضل.
داخل الجزيرة عثر سيلكيرك على الكثير من حيوان المعز، الذي كان الإسبان قد نقلوه سابقاً إلى الجزيرة، والذي كان من السهل اصطياده. ما منح الرجل الوحيد فرصة إعداد وجبات غذائية جديدة لم يتناولها منذ قدومه لهذا المكان المنعزل، خاصة لما وجد أيضاً اللفت وأوراق الملفوف البرية، وغيرها من المنتجات النباتية.
استعمل سيلكيرك القصب في بناء كوخين اثنين: الأول لطهي الطعام، والآخر للنوم والاستراحة، كما قرر إحضار بعض القطط للعيش بالقرب منه قصد إبعاد الجرذان التي كانت تزعجه في الليل، حين تقضم قدميه.
تعلم ألكسندر سيلكيرك (روبنسون كروزو الحقيقي) كيفية التعايش مع وضعه الجديد بحسب الإمكانيات المتوفرة.
فلما بدأ البارود يَنفد، لجأ إلى اصطياد المعز بيديه وملاحقتها جرياً على الأقدام. ولما أصبحت ملابسه مُهترئة، صنع ألبسة من الجلود بعدما دبغها مستعملاً التقنيات التي ورثها عن والده، كما صنع سكاكين عدة بفضل حلقات حديدية نزعها من برميلٍ قديم غير مستعمل، ونقشها وشحذها على الصخور.
وخلافاً لما جاء في رواية دانيال ديفو، التي ذُكر فيها أن روبنسون كروزو التقى برجلٍ "متوحش"، وأطلق عليه اسم Friday؛ فإنّ ألكسندر سيلكيرك أمضى أكثر من أربع سنوات وحيداً ومحروماً من أي رفيق يُشاركه أحزانه ويخفف من وحدته.
وقد كان يمضي وقته في نحت اسمه على الأشجار، وملاطفة الماعز التي كانت ترافقه، أو قراءة الإنجيل بصوت عالٍ لتجنب الوقوع في الجنون.
لكن بعد مرور 4 سنوات و4 أشهر على العزلة التامة، رست في جزيرة "ماس تييرا" سفينتان تابعتان للقرصان البريطاني وودس روجرز، ففوجئ بحارتها بوجود شخصٍ يرتدي لباساً من جلود الماشية مع شعرٍ ولحية طويلين.
ووفقاً لوودس روجرز، فحين تمّ العثور على ألكسندر سيلكيرك، لم يكن كلامه يُفهم إلا بصعوبة كبيرة، كما أنه احتاج أشهراً عدة ليتمكن من وضع حذاءٍ بقدميه المتصلبتين، ومن تناول الأطعمة المالحة التي افتقدها خلال فترة عزلته.
صار قرصاناً ومدمناً على الكحول
ولأنه كان في حالةٍ بدنية جيدة وفي كامل قواه العقلية، رغم كل ما عايشه، قرر وودس روجرز ضمّه إلى طاقمه برتبة ضابط ثانٍ، فارتحل معه نحو الشمال على طول سواحل أمريكا الجنوبية، للقيام بعمليات قرصنة جديدة.
فهاجم الأسطول مدينة غواكيل التابعة حالياً لدولة الإكوادور، ثم استولى على سفينة شراعية إسبانية ضخمة تابعة لـ"مانيلا جاليون" بالقرب من سواحل المكسيك، وغنم منها بضائع وكنوزاً ثمينة جداً.
وكانت "مانيلا جاليون" عبارة عن سفن كنوز إسبانية تنقل بضائع ثمينة، مثل الحرير والتوابل والبورسلين، من مانيلا في الفلبين إلى أكابولكو المكسيكية، بين عامَي 1565 و1815.
واصل ألكسندر سيلكيرك (روبنسون كروزو الحقيقي) رحلته حول العالم، ضمن أسطول وودس روجر. فاستقر لفترة قصيرة في جزر الهند الهولندية (إندونيسيا حالياً)، قبل أن يدخل إلى المحيط الهندي ويعبر رأس الرجاء الصالح في جنوب إفريقيا، ويصعد عبر المحيط الأطلسي إلى إنجلترا، التي وصل إليها يوم 1 أكتوبر/تشرين الأول 1711.
بدأت قصة ألكسندر سيلكيرك تُتداول على ألسن بعض البريطانيين، قبل أن تنتشر أكثر حين تطرق إليها الضابط الإنجليزي إدوارد كوك في كتابه A Voyage to the South Sea, and Round the World، الذي صدر سنة 1712.
وهو عبارة عن سردٍ لرحلته حول العالم، ضمن أسطول القبطان وودس روجر، والتي انطلقت من مدينة بريستول الإنجليزية عام 1708، وجابت مختلف المحيطات والعديد من البحار.
ثم ازدادت القصة انتشاراً عندما نشر القُبطان وودس روجر في السنة ذاتها، مذكراته اليومية على شكل كتاب حملَ عنوان A Cruising Voyage Round the World، كما خصّصت صحيفة The Englishman مقالاً عن قصة ألكسندر سيلكيرك المثيرة عام 1713.
ورغم الشهرة التي أحاطت به في السنوات الأولى التي أعقبت عودته إلى بريطانيا، فإن سيلكيرك لم يتمكن من التأقلم جيداً مع "الحضارة" الأوروبية، بعد كل تلك الفترة التي قضاها منعزلاً في الجزيرة المهجورة.
فأصبح مدمناً للكحول، وتشاجر مع زملائه البحارة، فترك العمل مع وودس روجرز، من دون أن يطالب بحقه في الغنيمة، وعاد ليعيش بمسقط رأسه في أسكتلندا إلا أنه لم يمكث بها طويلاً.
فقد انتقل عام 1717 إلى لندن وانضمّ لصفوف البحرية الملكية البريطانية، قبل أن يفارق الحياة سنة 1721، بعد إصابته بـ"الملاريا" عندما كان على متن سفينة "وايموث" التي كانت تراقب وتطارد القراصنة بالقرب من سواحل غانا.
بعد وفاته، انكشف سر جديد كان قد عاشه ألكسندر سيلكيرك. فقد ظهرت امرأتان ادعت كل واحدة منهما أنها أرملته وطالبت بحقها في الميراث، مُستندة إلى وصية تركها لها.
لاحقاً أظهرت التحقيقات أنّه خدعهما، مثلما خدع السلطات المدنية والدينية في بلاده، التي لا تُجيز تعدد الزوجات.
ومثلما تعرض للظلم من قِبل الروائي دانيال ديفو، الذي يعتبر البعض أنه كان عليه أن يذكر اسمه الحقيقي في روايته الشهيرة "روبنسون كروزو"، فإن ألكسندر سيلكيرك ظُلِم أيضاً من قِبل دولة تشيلي التي غيّرت اسم جزيرة "ماس تييرا" إلى "روبنسون كروزو".
فيما أطلقت على جزيرةٍ مقابلة لها اسم "أليخاندرو سيلكيرك" عام 1966، رغم أنّ البطل الحقيقي للقصة لم يعش قط في تلك الجزيرة. لكن وبحسب بعض المصادر، فقد أرادت تشيلي تعزيز السياحة في البلاد.