لم تكن كومونة باريس ثورة عادية في تاريخ فرنسا؛ سيبقى إرثها مثار جدلٍ كبير بين من يراها عملاً تخريبياً من جهة، ومن يعتبرها الحدث المؤسّس لأول ثورة اشتراكية في العصر الحديث من جهةٍ أخرى.
ورغم أنها استمرت 72 يوماً فقط، وهي مدة قصيرة في عمر الثورات، لكن نتائجها كانت مدوية ودموية في الوقت نفسه، وقد ساهمت -بشكلٍ أو بآخر- في تشكيل فرنسا الحديثة.
في مارس/آذار 1871، تأسّست كومونة باريس على اعتبارها أول محاولة للطبقة العاملة في التاريخ الحديث لخلق "اشتراكية". استولى عمّال باريس على المدينة، بمساعدة متمرّدين من الحرس الثوري، وشرعوا في تنظيم مجتمع قائم على مجالس العمال.
تمكن "الكومونيون" من السيطرة على العاصمة الفرنسية حتى أواخر شهر مايو/أيار، حين اتحدوا ضدّ قادتهم وطردوا المسؤولين خارج باريس، إلى أن استعادتها حكومة فرساي النظامية وقتلت نحو 20 ألف عاملٍ انتقاماً.
لكن، ما الذي مهّد للثورة الفرنسية الرابعة؟
بدأ الطريق إلى كومونة باريس (La Commune de Paris) في 19 يوليو/تموز 1870، حين أعلن نابليون الثالث (ابن شقيق نابليون بونابرت) الحرب على بروسيا. فقد أراد استعادة مكانة فرنسا، باعتبارها قوة إمبريالية رائدة في أوروبا.
كان السبب المباشر لقيام الحرب البروسية-الفرنسية ترشيح المستشار البروسي (أوتو فون بسمارك) للأمير ليوبولد ملكاً على إسبانيا، بعد خلع الملكة إيزابيلا الثانية سنة 1868 من عرشها.
أزعج هذا الترشيح فرنسا بشدة؛ فقد شعر نابليون الثالث بالتهديد من تشكّل تحالفٍ بين مملكتَي بروسيا وإسبانيا ضدّه، في حال جلس ليوبولد على عرش المملكة الإسبانية، وأعلن رفضه لهذا الترشيح بالتزامن مع إعلانه الحرب على بروسيا.
لكن سرعان ما فشل في تحقيق ذلك. فرضت بروسيا حصاراً قوياً على باريس استمرّ 4 أشهر، رافقه قصفٌ مستمرّ، أدّى إلى استسلام المدينة في 28 يناير/كانون الثاني 1871 بعدما تعرّضت لدمارٍ كبير لم تشهد له مثيلاً.
استسلم نابليون الثالث للبروسيين في معركة سيدان، وعاش أسيراً عند الألمان، قبل أن يعيش في بريطانيا حتى وفاته عام 1873. ثار الفرنسيون ضدّ الإمبراطورية الثانية، فتأسّست الجمهورية الثالثة، التي اعتبرتها الطبقة العاملة مشابهة للنظام الملكي.
لم ترضِ الحكومة الجديدة عمّال باريس، ولا أفراد الحرس الوطني. ووفقاً لموقع History، حاول مسؤولو حكومة الجمهورية الثالثة إقامة علاقة ودية مع البروسيين، من خلال اتخاذ قرار نزع سلاح الحرس الوطني الباريسي، وإعادة النظام في العاصمة الفرنسية.
طبّقت الحكومة الفرنسية -بقيادة القائد المنتخب حديثاً أدولف تيير- القرار الذي وُصف بـ"المشؤوم"، حين أرسلت يوم 18 مارس/آذار 1871 قواتاً من فرساي لإزالة مدافع الحرس الوطني من حي مونمارتر في باريس.
رفض المواطنون إزالة مدافع الحرس الوطني، ووقفت النساء أمام قوات حكومة فرساي لمنعها من ذلك.
ومع أن الحكومة الفرنسية أمرت قواتها بإطلاق النار على المعترضين، رفض الكثير من الجنود اتباع هذه الأوامر. ما أدى إلى قتل جنرالين على يد رجال الحرس الوطني، وبعض أفراد القوات الحكومية، الذين تركوا الخدمة وانضمّوا إلى المعترضين.
حين وصلت الأخبار إلى تيير، أمر القوات بالانسحاب من باريس والعودة إلى فرساي، حيث يمكنهم التخطيط للخطوة المقبلة. فردَّ الباريسيون بانتخاب حكومةٍ جديدة بعد أيام، ومنفصلة عن حكومة فرساي.
كومونة باريس قيد العمل
بعد مغادرة مسؤولي الجمهورية الثالثة العاصمة الفرنسية، سرعان ما اجتمع العمّال الباريسيون ورجال الحرس الوطني وغيرهم من المواطنين لإنشاء كومونة باريس الثورية.
وفي 26 مارس/آذار، نظمت اللجنة المركزية للحرس انتخابات للمسؤولين "الكومونيين" الذين سيديرون المدينة، وعملوا من قصر البلدية الشهير. فتعهَّدت الحكومة بعد ذلك بوضع برنامجٍ ثوري.
وبالفعل، بدأت كومونة باريس الوفاء بوعودها بسرعةٍ كبيرة.
فأصدرت الحكومة المُشكّلة حديثاً قرارات عدة؛ أمرت بفصلٍ صارم بين الكنيسة والدولة، وألغت التجنيد الإلزامي، كما أنهت ممارسة العمل الليلي، وأصدرت قوانين عمالة الأطفال، وقدّمت معاشات تقاعدية لأفراد أسر رجال الحرس الوطني الذين ماتوا أثناء الخدمة.
وكجزءٍ من حملة إزالة الدين من الحياة العامة، تحوّلت العاصمة إلى التقويم الفرنسي، الذي اعتُمد في الثورة الفرنسية السابقة. ومع أن النساء لم يكنَّ أعضاءً في قيادة كومونة باريس، ولم يُسمَح لهن بالتصويت، فمع ذلك شاركن في الثورة قلباً وقالباً.
في غضون ذلك، عمل المواطنون الآخرون على عسكرة باريس. فأقاموا حواجز من الحصى والركام لإغلاق الطرق، واستعد رجال الحرس الوطني لهجومٍ وشيك من جانب قوات الحكومة الفرنسية.
لكن وفقاً للموسوعة البريطانية، فقد عانى أنصار كومونة باريس لتنظيم أنفسهم عسكرياً، وارتكبوا خطأً فادحاً حين تركوا بعض قطاعات المدينة من دون دفاع. ركزت الكومونة على السياسة، ولم تعر الشأن العسكري اهتماماً كافياً.
هدم بعض أهل الكومونة النصب التذكارية في الداخل الباريسي، خصوصاً تلك التي تُمجّد الجيش أو الملكية الفرنسية، فيما كانت القوات الفرنسية تستعد لمهاجمة العاصمة.
واحدة من أكثر أعمال الهدم التي لا تُنسى كانت الإطاحة بـ"عامود فاندوم"، النصب التذكاري الذي يُكرّم نابليون بونابرت. هدمت كومونة باريس العامود، واصفةً إياه بـ"نصب الهمجية، ورمز القوة والمجد الغاشم، وتأكيد النزعة العسكرية، وإنكار القانون الدولي".
الأسبوع الدامي.. النهاية العنيفة لكومونة باريس
بحلول أواخر مايو/أيار، كان تيير ومسؤولو حكومة الجمهورية الثالثة مستعدين لاستعادة باريس. نظّموا عشرات الآلاف من القوات الموالية، بعدما وقّعت فرنسا في وقتٍ سابق معاهدة سلام رسمية مع بروسيا، لتركز كامل انتباهها على كومونة باريس.
وفي 21 مايو/أيار، بدأت قوات الحكومة الفرنسية التدفق إلى باريس، وراحت تطلق النار يميناً وشمالاً. فقتلت عدداً لا يُحصى من سكان الكومونة في طريقها.
وفي صباح ٢٨ مايو/أيار، لم يبقَ من كومونة باريس سوى بضعة شوارع. وعند الواحدة من بعد الظهر، كانت القوات الفرنسية قد أعلنت عن سقوط آخر المتاريس التابعة للكومونة.
وعند الرابعة من بعد الظهر، تمّ توقيف الأناركي يوجين فارلان (عضو الأممية الأولى المقرّب من باكونين، وقائد معركة ساحة فاندوم) وأُعدم رمياً بالرصاص، وبقيت جثته في شارع Rosiers ثلاثة أيام.
سحقت القوات النظامية كل متاريس كومونة باريس، وقضت على معاقلها في الأسبوع الدموي.
اعترفت حكومة فرساي بـ17 ألف قتيل، لكن يرجّح المؤرخون أنّ عدد ضحايا الكومونة الفعلي وصل إلى 20 ألفاً في 10 أيامٍ فقط، عدا عن آلاف الأشخاص الذين تمّ حجزهم وتقديمهم إلى المحاكمة مساءً.
43 ألف شخص، هو عدد الكومونيين الذين حوكموا بسبب مشاركتهم في دعم كومونة باريس، وهُجّرَ أكثر من 7 آلاف (تم ترحيلهم إلى كاليدونيا الجديدة)، إضافةً إلى 116 طفلاً أُرسلوا إلى سجن الأحداث.
لم ينل الكومونيون العفو العام إلا بعد 9 سنوات، أي عام 1880، وتلازم الأمر مع نشر فيكتور هوغو رائعته عن المشاركين في كومونة باريس A ceux qu'on foule aux pieds.
إرث كومونة باريس
بعد فترة من سقوط الكومونة العنيف، ألقى الفيلسوف الشيوعي كارل ماركس خطابه الشهير عن الحكومة الثورية، قائلاً إن الصراع الطبقي "لا يمكن القضاء عليه بأي قدرٍ من المجازر. وللقضاء عليه، سيتعيّن على الحكومات القضاء على استبداد رأس المال".
وأضاف ماركس: "سيُحتفى إلى الأبد بباريس الطبقة العاملة، وكومونها، باعتبارهما البشير المجيد لمجتمع جديد".
وفي كتابه "عصر رأس المال"، يقول المؤرخ البريطاني إريك هوبزباوم: "كانت كومونة باريس، شأنها شأن الكثير من معالم التاريخ الثوري لتلك الفترة، بالغة الأهمية؛ لا لما حققته من إنجازات، بل لاستشرافها ما حدث من تطورات لاحقة".
ويتابع: "كان لها وزنها الهائل بوصفها رمزاً، لا مجرد واقعة تاريخية. وهي أسطورة لا تزال أصداؤها تتردد حتى اليوم، وبخاصة في جمهورية الصين الشعبية. وكان إنجازها الأساسي أنها كانت حكومة، مع أنها لم تستمر أكثر من شهرين".
ويسرد هوبزباوم كيف أن لينين، بعد ثورة أكتوبر/تشرين الأول 1917 في روسيا، كان يحسب الأيام يوماً بعد يوم إلى أن حانت اللحظة التي أعلن فيها بلهجة المنتصر: "لقد تخطينا عمر الكومونة".
اليوم، يُحتفى ببعض أجزاء كومونة باريس بالفعل، فيما يعتبرها البعض الآخر عملاً تخريبياً. لكن في نهاية المطاف، لا تزال الكثير من السياسات التي أقرّتها حكومتها موجودة في الكثير من الديمقراطيات المعاصرة، خصوصاً تلك المرتبطة بحقوق العمال والفصل بين الكنيسة والدولة.
ورغم أنه لا يتوافق الجميع على النظر إلى الكومونة بنظرة إعجاب، يبقى إرثها حاضراً في الذاكرة الجماعية الحديثة، بعد مرور أكثر من 150 عاماً على صعودها وسقوطها السريعَين.