دائماً ما يرتبط اسم الشوكولاته في أذهاننا بالسعادة والمذاق الحلو، من دون أن يتم الحديث عن صناعة الشوكولاته؛ ذلك المنتَج السحري الذي يُدمنه الكثيرون حول العالم، ولا يترددون في إنفاق مئات الدولارات لاقتناء قالبٍ سويسري من هنا، أو علبة من القطع الصغيرة هناك.
ورغم مذاقها الحلو، إلا أن صناعة الشوكولاته لا تخلو من جوانب مظلمة في خطوات إنتاجها المختلفة والمتعددة، وفي تأثيرها على البيئة، وتأصيلها للكراهية بين البشر في كثيرٍ من الأحيان. لكن أولاً، ما هو تاريخها؟
صناعة الشوكولاته قديمة قِدَم التاريخ نفسه
تضرب الشوكولاته بجذورها في التاريخ، فقد عرفتها الحضارات القديمة لأمريكا الوسطى، ومن المعروف أن شعوب الأزتيك والمايا تناولت الشوكولا بأشكالٍ مختلفة؛ أشهرها طحن المشروب المصنوع من حبوب الكاكاو، ومزجه بالماء والتوابل والفلفل الحار.
دخلت الشوكولاته في الاحتفالات الدينية، واستُخدمت كعملةٍ للتجارة والمقايضة. وفي القرن 16، ومع الاحتلال الإسباني للأمريكتين، عرف الأوروبيون الشوكولا وأحضروها إلى بلادهم، وسرعان ما أصبحت ضيفاً دائماً على موائد الأثرياء.
تم افتتاح أول مصنع للشوكولاتة في لندن عام 1657، لتصبح منتجاً تجارياً للمرة الأولى بعد أن كانت تُحضّر في البيوت. وبحلول القرن 18، أصبحت الشوكولاته مشروباً شائعاً بين الطبقة الأرستقراطية.
أحدثت الثورة الصناعية، في القرنين 18 و19، تغييرات مهمة في صناعة الشوكولاته. فصار من الممكن التوسّع في عملية الإنتاج، بفضل الآلات الصناعية التي تعمل على البخار، كما تمّ تطوير تقنياتٍ جديدة لمعالجة حبوب الكاكاو.
في العام 1828، طوّر كونراد فان هوتين (الذي سيصبح أحد الأسماء البارزة في تاريخ تلك الصناعة) طريقةً لفصل مواد الكاكاو الصلبة عن زبدة الكاكاو، لينتج عن تلك العملية مسحوق أمكن خلطه بسهولة مع السوائل المختلفة؛ ما جعل الشوكولاته أرخص وأسهل وفي متناول الرأي العام.
لاحقاً في العام 1875 ابتكر السويسري دانيال بيتر أول شوكولاتة بالحليب، عن طريق إضافة الحليب المكثف إليها، ما زاد من شعبيتها. لكن القرن العشرين كان الأساس في تاريخ صناعة الشوكولاته، لأنه شهد ظهور "عمالقة" الشوكولاته، مثل: "كادبوري"، و"نستله"، و"هيرشي".
هيمنت هذه الشركات على صناعة الشوكولاته، لا سيما أنها استخدمت مواردها لتطوير منتجاتٍ جديدة، وتنفيذ حملات إعلانية ضخمة، جعلت الشوكولا عنصراً حاضراً في كل مناحي الحياة الحديثة.
وقد كان للحرب العالمية الثانية تأثيرٌ كبير على صناعة الشوكولاته؛ فوفقاً لـ"المتحف الوطني للتاريخ الأمريكي"، تمّ إنتاج ألواح شوكولاتة يمكنها تحمّل درجات الحرارة المرتفعة وقتئذٍ؛ مما يسمح للجنود بالاحتفاظ بها لوقتٍ طويل والاستمتاع بها رغم ضراوة المعارك.
حلاوة الشوكولاته تنغّصها عمالة الأطفال
مذاق الشوكولاته الرائع، الذي يرتبط في أذهان الكثيرين بتدفق هرمون السعادة "السيروتونين" في الدم، يرتبط كذلك بالنسبة لملايين البشر بمرارة المعاناة والألم والاستغلال؛ وعمالة الأطفال من أبرز النقاط "السوداء" في تلك الصناعة.
ووفقاً لـ"منظمة العمل الدولية"، يعمل أكثر من مليوني طفل بصناعة الكاكاو في غرب إفريقيا (خاصة غانا وساحل العاج)، وهي المنطقة المسؤولة عن أكثر من 70% من الكاكاو الذي يتم إنتاجه حول العالم، هذا بالإضافة إلى بلدان أمريكا اللاتينية سيما البرازيل.
وتفيد التقارير بأن الكثير من الأطفال في تلك المناطق يبدأون العمل في سنّ مبكرة، للمساعدة في إعالة أسرهم، وينتهي بهم الأمر في العمل بالسخرة داخل مزارع الكاكاو، ويجد البعض الآخر نفسه وسط عمليات الاتجار بالبشر.
أحياناً يتم "بيع" الأطفال إلى التجار، أو أصحاب المزارع، من قِبل أقاربهم مقابل المال. وقد وثق بعض الصحفيين -الذين ذهبوا متخفين- بيع الأطفال مقابل 34 دولاراً فقط للطفل الواحد في غانا.
وبمجرد أن يتم نقلهم إلى مزارع الكاكاو، لا يرى الأطفال عائلاتهم على مدى سنوات، كما لا تتوفر لديهم فرص تعليم بالطبع، أسوةً بغيرهم.
تقلّ أعمار الأطفال العاملين في حقول الكاكاو أحياناً عن 5 سنوات، ويُجبر العديد منهم على العمل لساعاتٍ طويلة، لا يحصلون خلالها على راحةٍ كافية، بحيث تصل ساعات العمل في أوقاتٍ كثيرة إلى 14 ساعة في اليوم.
وخلال كل مراحل صناعة الشوكولاته، يتعرض هؤلاء الأطفال إلى المبيدات الحشرية وغيرها من المواد الكيميائية الضارة، مع الإشارة إلى أن ظروف العمل نفسها صعبة وتنطوي على كثير من المخاطر.
يستخدم بعض الأطفال المناشير لإزالة أشجار الغابات، فيما يتسلق آخرون أشجار الكاكاو لقطع الثمار باستخدام منجل، هذه الآلات لديها القدرة على إصابة الأطفال إصابات بالغة، ويعاني العديد منهم من ندوب على أجسادهم نتيجة عملهم في مزارع الكاكاو.
إلى جانب الاستغلال "البشع" للأطفال، فإن أجور العاملين في هذا القطاع منخفضة جداً ترافقها ظروف عملٍ سيئة، في صناعةٍ تبلغ أرباح الشركات الكبرى فيها أكثر من 100 مليار دولار سنوياً.
وبعيداً عن الأطفال، يشتغل العمال لساعاتٍ طويلة من دون أدنى أساسيات العمل، مثل المياه النظيفة أو مرافق الصرف الصحي؛ كما أن العديد منهم لا يتم تزويدهم بأي معداتٍ واقية.
في مقابلةٍ مع "مشروع التمكين الغذائي" في العالم، يقول علي دياباتي الذي عَمِل بالسخرة لسنواتٍ طويلة في مزارع الكاكاو وبظروفٍ قاسية للغاية: "كان الضرب جزءاً من حياتي. في أي وقت يحمّلونك بعض الحقائب وتسقط وأنت تحملها، تنهال عليكَ الضربات حتى تلتقطها مرة أخرى".
ولعلّ أقسى عبارة قالها دياباتي عن عمله في مزارع الكاكاو، هي عندما سُئل عن الأشخاص الذين يأكلون الشوكولاته المصنوعة من العمل بالسخرة، فقال: "عندما يأكل الناس الشوكولاته، فإنهم يأكلون لحمي".
ندمّر الكوكب لنستمتع قليلاً
الإشكالية الأخرى التي ترتبط بصناعة الشوكولاته هي تأثيرها الضار على البيئة. فصناعة الشوكولاته تتطلب كميات كبيرة من الموارد الطبيعية، يشمل ذلك الأرض والمياه والطاقة. وقد أدى استخدام المبيدات الحشرية والممارسات الزراعية الضارة، على مدار عشرات السنوات، إلى تصحّر مساحاتٍ كبيرة من الأراضي المستخدمة في زراعة الكاكاو.
تتطلب زراعة الكاكاو مساحاتٍ شاسعة، ومع زيادة الطلب على الشوكولاته، ازدادت مساحة الأراضي المستنزفة، وقد أدى ذلك إلى تدمير الكثير من الغابات في مناطق الإنتاج، ما كان له تأثيرٌ مدمّر على التنوع البيولوجي والنظام البيئي.
وتساهم عملية إزالة الغابات هذه في تفاقم مشكلة تغير المناخ، فعادةً ما تمتص الأشجار ثاني أكسيد الكربون من الغلاف الجوي وتخزنه في كتلتها الحيوية؛ لذلك عندما يتم تدمير الغابات، تزيد نسبة ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي، ما يساهم في ظاهرة الاحتباس الحراري.
أدت ممارسات الزراعة الأحادية (والتي تعني الزراعة المتكررة لمحصول واحد على قطعة محددة من الأرض) المستخدمة في صناعة الشوكولاته إلى تدهور التربة، لأنه يتم استنفاد التربة من العناصر الغذائية الأساسية ويجعلها أكثر عرضة للتآكل.
بالإضافة إلى ذلك، يؤدي الإسراف في استخدام المبيدات الحشرية والأسمدة إلى زيادة تدهور التربة؛ ما يهدد استدامة زراعة الكاكاو على المدى الطويل، وإلى تلوث المياه أيضاً. فتلك المواد الضارة تتسرب إلى المجاري المائية.
كما أن الكميات الكبيرة من المياه التي تتطلبها زراعة الكاكاو تستنفد موارد المياه المحلية، ما يعرض المناطق القريبة للجفاف.
العنصرية ضدّ السود في قلب الحملات الإعلانية
على مدار السنوات، استخدمت الشركات المصنّعة للشوكولاته صوراً عنصرية في حملاتها التسويقية، ولديها تاريخ "غير مشرف" في هذا الإطار.
على سبيل المثال، تعرضت شركة الشوكولاته الإيطالية "فيريرو روشيه" عام 2019 لانتقاداتٍ كثيرة بسبب إعلانٍ تلفزيوني ظهرت فيه امرأة بيضاء تقدّم الشوكولاته لطفلٍ أسود، مع عبارات تقول "مرحباً بك في عالم روشيه، حيث تأتي دائماً أفضل المفاجآت من قلب إيطاليا".
لكن الشركة نفسها تعرّضت لانتقاداتٍ بعد ذلك بعامٍ واحد، في المملكة المتحدة، بسبب حملةٍ إعلانية تضمّنت صورةً لامرأة سوداء تحمل صينية من الشوكولاته، باعتبارها ترسّخ الصورة النمطية عن النساء السود كخادمات في المنازل.
في العام 2011، أطلقت عملاق صناعة الشوكولاته "كادبوري" سلسلة من الحملات الإعلانية في الهند التي كانت تصور شخصاً أبيض البشرة يحمل قالباً من الشوكولاته البيضاء تحت شعار "الأبيض لذيذ".
وهي الحملة التي تم انتقادها على نطاق واسع في العالم، باعتبارها عنصرية وتنميطية لأنها ترسخ فكرة أن البشرة البيضاء مرغوبة أكثر.في العام نفسه، اضطرت "كادبوري" أيضاً إلى تقديم اعتذارٍ لعارضة الأزياء الشهيرة نعومي كامبل، بعد أن ضمّنتها في إعلانٍ عنصري ومسيء.
كانت الشركة قد طرحت إعلاناً لأحد منتجاتها يصوّر قطعة من الشوكولاته، مع عبارة تقول: "يمكنك الرحيل الآن نعومي.. فثمة بريما دونا جديدة في البلاد". العنصرية هنا تمثلت بتشبيه نعومي كامبل بشوكولاتة بريما دونا، في إشارةٍ واضحة إلى لونها الأسمر الداكن.
عام 2018، أطلقت شركة "توبليرون" حملة إعلانية في البرازيل تضمّنت صورة لقطعة شوكولا مع عبارة تقول: "كل شيء جيد ليس سيئاً"، مع صورةٍ لامرأة سوداء في الخلفية كُتبت كلمة "سيئاً" فوق رأسها مباشرةً.