الاسم الكامل لتمثال الحرية هو "الحرية تنير العالم"، وهو عملٌ فني أهدته فرنسا إلى الولايات المتحدة الأمريكية في القرن 19، ويستقر حالياً على جزيرة الحرية في خليج نيويورك على ارتفاع 46 متراً.
يتكون التمثال من ألواحٍ نحاسية بسماكة 2.5 ملم، مُثبتة جميعها إلى الهيكل الحديدي. يصل وزنه إلى إجمالي 125 طناً، ويرتكز على قاعدة من الغرانيت، عرضها وطولها 47 متراً؛ ما يجعل مجموع ارتفاع النصب التذكاري، من أسفل القاعدة إلى أعلى المشعل، 93 متراً.
ليس تمثال الحرية مجرّد عملٍ فني جميل، أو قبيح، فهو في الحقيقة يمثل تاريخاً مثيراً ومثقلاً بالأحداث السياسية.. تعالوا نتعرّف على قصته.
انطلقت فكرته خلال مأدبة عشاء
بدأت قصة تمثال الحرية سنة 1865، بفكرةٍ لسياسي فرنسي يُدعى إدوارد دي لابولاي أراد الاحتفال بذكرى مرور 100 عام على إعلان استقلال الولايات المتحدة الأمريكية، بطريقةٍ مميزة.
كان دي لابولاي نائباً، وسيناتوراً، ومحامياً مرموقاً مدافعاً عن حقوق الإنسان، وداعماً لتحرير "العبيد". وقد تابع باهتمامٍ كبيرٍ الحرب الأهلية الأمريكية التي انتهت عام 1865 بانتصار جيش الاتحاد، أي كتائب الولايات المؤيدة لقانون إلغاء العبودية، على حساب جيش الولايات الكونفدرالية الرافضة لتحرير العبيد.
ووفقاً لموقع Futura، فإن فكرة بناء تمثال الحرية خطرت له في العام نفسه خلال مأدبة عشاء كان يقيمها في منزله بمدينة "فرساي" الفرنسية.
العشاء أقيم لسببين:
- احتفالاً بانتصار قوات الاتحاد في تلك الحرب.
- وحزناً على اغتيال الرئيس الأمريكي أبراهام لينكون، الذي كان قد أصدر قراراً تنفيذياً بتحرير كل عبيد الولايات المتحدة، وإلغاء العبودية بالبلاد بشكلٍ نهائي.
استغلّ إدوارد دي لابولاي تلك المناسبة لعرض فكرة تقديم تمثالٍ يعبّر عن الحرية، هديةً من الشعب الفرنسي إلى الولايات المتحدة، لتكون بمثابة رمزٍ للمساعدة التي قدّمتها فرنسا إلى الأمريكيين خلال حرب الاستقلال.
وقد كان النحات الفرنسي الشهير فريديريك أوغست بارتولدي من بين الحاضرين خلال العشاء، فتمّ تكليفه بإنجاز المشروع، ولكنه تأخر في مباشرة العمل عليه بسبب عدم الاستقرار السياسي الذي عرفته فرنسا وقتئذ.
تمثال الحرية "المصري" الذي لم يرَ النور
في العام 1870 نحت بارتولدي نموذجاً مصغراً من الطين لتمثال الحرية، ما زال معروضاً لليوم في متحف "بارتولدي" بمسقط رأسه "كولمار"، استلهم تصميمه من مشروعٍ لم يرَ النور كان يريد إنجازه في مصر.
ففي العام 1856، وخلال رحلةٍ إلى مصر، انبهر النحات الفرنسي بتمثالي ممنون في منطقة الأقصر الأثرية. فرغب بإنجاز عملٍ فني مشابه، ثم لاحت له فكرة تجسيد هذه الرغبة أثناء رحلته الثانية إلى مصر، خلال فترة حفر قناة السويس.
كانت الفكرة تتمثل بوجود منارةٍ ضخمة أمام مدخل القناة لإرشاد السفن، على هيئة آلهة الحرية في الأساطير الرومانية، وترتدي ملابس فلاحة مصرية وترفع يدها حاملةً الشعلة المضيئة لإرشاد السفن.
وفي العام 1869، عرض بارتولدي مشروعه على خديوي مصر إسماعيل باشا، على أمل تقديم نموذجٍ منه خلال احتفالات الانتهاء من إنجاز قناة السويس في السنة ذاتها.
ووفقاً للموسوعة البريطانية Britannica، فإن مشروع التمثال (الذي سمّاه "مصر تجلب النور إلى آسيا") لم يتم إنجازه رغم إعجاب الخديوي به، بسبب الوضع الاقتصادي الصعب الذي كانت تعيشه مصر في ذلك الوقت.
لذلك، وبعد التخلي عن مشروع التمثال الذي كان موجهاً لقناة السويس، صبّ بارتولدي كل اهتمامه على تمثال الحرية الموجّه لأمريكا. فبدأ في تعديل تفاصيل رسوماته، مستبدلاً لباس المرأة المصرية بالرداء اليوناني، كما حلّ التاج محلّ غطاء رأسها.
وفي العام 1871، توجه بارتولدي نحو أمريكا حاملاً معه رسائل توضيحية من صديقه لابولاي، فمكث فيها 5 أشهر، حدّد خلالها موقع نصب تمثال الحرية في جزيرة "بيلدو"؛ التي صارت فيما بعد "جزيرة الحرية".
وفي العام 1875، أي قبل سنة واحدة من الذكرى المئوية لإعلان استقلال الولايات المتحدة، أعلن إدوارد دي لابولاي إطلاق حملة جمع التبرعات لإنجاز تمثال الحرية، التي ساهمت فيه الحكومة الفرنسية بقسطٍ كبير.
وقد كان كارتولدي قد اختار المهندس المعماري يوجين فيوليت لو دوك لتصميم الهيكل الإنشائي للتمثال في البداية، لكن وفاة الأخير جعلته يلجأ إلى غوستاف إيفل، الذي اشتهر بتصميم وبناء "برج إيفل".
حملة صحفية أنقذت التمثال
وفقاً لموقع National Geographic، فقد استغرق نحت وبناء تمثال الحرية 9 أشهر من العمل الشاق للفرق الفرنسية. وكان يتم عرض الأجزاء المختلفة منه، بشكلٍ تدريجي، في جميع أنحاء باريس، ومن بينها الحدائق المواجهة لبرج إيفل الشهير.
وبحلول عام 1885، كان تمثال الحرية قد وصل إلى نيويورك في انتظار تركيبه. ومع ذلك، لم تتمكن الولايات المتحدة من جمع المال الكافي لبناء قاعدة الغرانيت له.
ونقل موقع هيئة الإذاعة البريطانية BBC تصريحاً لرودريغو ديفيز، الباحث في مركز الإعلام المدني في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، قال فيه إنه "بفضل حملةٍ صحفية وتبرعات صغيرة من السكان تمّ بناء قاعدة التمثال في نيويورك".
وأوضح الموقع البريطاني أنّه قد تم تكليف مجموعة تُسمى "اللجنة الأمريكية لتمثال الحرية" بجمع الأموال، لكنها فشلت بعد رفض حاكم نيويورك استخدام أموال المدينة لدفع ثمن القاعدة، ولم يتمكن الكونغرس من الاتفاق على حزمة تمويل.
وتمت تسوية الأمر عندما قرر الناشر الشهير جوزيف بوليتزر إطلاق حملة لجمع التبرعات في جريدته" ذي نيويورك وورلد"، جمعت أكثر من 160 ألف متبرع، وأكثر من ثلاثة أرباع التبرعات كانت أقلّ من دولار واحد.
وأخيراً تمكن المهندس الأمريكي ريتشارد موريس هنت من تصميم قاعدة تمثال الحرية، التي بلغ عرضها 47 متراً. وفي 28 أكتوبر/تشرين الأول 1886، تم تدشين تمثال الحرية رسمياً بنيويورك، في غياب إدوارد دي لابولاي الذي كان قد توفي قبل 3 سنوات.
فرنسا شاركت في حرب الاستقلال بـ6 آلاف جندي
صحيح أن إدوارد دي لابولاي أراد التعبير عن صداقة الشعبين الفرنسي والأمريكي، بإنجاز تمثال الحرية؛ ولكن المساهمة الكبيرة للحكومة الفرنسية، في تمويل المشروع وتقديمه بشكلٍ رسمي إلى أمريكا، تعود إلى رغبة فرنسا في تخليد مشاركتها باستقلال الولايات المتحدة عن بريطانيا.
وقد أوضح موقع Histoire Et Civilisation الفرنسي أنه في ذلك الوقت لم يكن تبادل ذلك النوع من الهدايا أمراً شائعاً بين الدول، وأن تمثال الحرية هو بمثابة هديةٍ قدّمتها فرنسا لنفسها أيضاً، من أجل التأكيد على دورها في تحرير الولايات المتحدة.
ففي عهد الملك لويس السادس عشر، شاركت فرنسا في حرب الاستقلال من خلال إرسالها الجنود والأسلحة إلى أمريكا الشمالية، للثأر من هزيمتها أمام بريطانيا في حرب السبع سنوات؛ فأتيح لها ذلك عبر المشاركة في حرب استقلال الولايات المتحدة.
بدأ تمرد المستعمرين الأمريكيين على بريطانيا في العام 1775، ولكن فرنسا لم تدخل الحرب بشكلٍ رسمي إلا في العام 1778.
وقبل دخول فرنسا الحرب رسمياً، كان بعض قادتها العسكريين قد تطوعوا في صفوف القوات الأمريكية بشكلٍ انفرادي، وأبرزهم الماركيز جيلبير دو موتييه دو لافاييت. ولم يرسل الملك هنري السادس عشر جنوده إلى أمريكا إلا في صيف 1780.
قُدّر عدد جنود الجيش الفرنسي، المُرسل إلى ميدان الحرب، بحوالي 6 آلاف عسكري تحت قيادة الجنرال الكونت جون بابتيس دو ناسيان دو روشومبو، حيث أقام مقره الرئيسي في مدينة نيوبورت الساحلية بمنطقة "رود آيلاند".
وفي صيف عام 1781، انضم الجيش الفرنسي إلى جيش جورج واشنطن في شمال نيويورك، ثم توجه نحو فيرجينيا قاطعاً مسافة 800 كيلومتر سيراً على الأقدام، بحسب ما جاء في تقريرٍ آخر نُشر في الموقع الفرنسي نفسه.
وفي نهاية سبتمبر/أيلول من السنة ذاتها، فرضت القوات الفرنسية حصاراً على مدينة "يوركتاون"، حيث لجأ قائد القوات البريطانية، الجنرال البريطاني تشارلز كورنواليس.
كما تمركز أسطول بحري فرنسي في خليج شكسبير، لمنع وصول أي إمدادات عسكرية إلى كورنواليس، ما دفع الأخير في النهاية لإعلان استسلامه يوم 19 أكتوبر/تشرين الأول.
وكان ذلك الحصار، الذي يُسمى أيضاً بـ"معركة يوركتاون"، حاسماً في تحديد مسار الحرب وترجيح الكفة لصالح التحالف الأمريكي الفرنسي الذي حقق انتصارات في معارك أخرى، أبرزها معركة "سان كيتس" البحرية في العام 1782.
وانتهت الحرب بالتوقيع على اتفاقية باريس يوم 3 سبتمبر/أيلول 1783، بين ممثلي المستعمرات الأمريكية الـ13 وبريطانيا، تعترف من خلالها هذه الأخيرة باستقلال الولايات المتحدة الأمريكية.