"الآن، كل الذين انتقدوني وطالبوني بالانسحاب، أصبحوا يقولون "لقد كان محرم إنجه على حق"، بعد ماذا؟ بعد خراب البصرة؟ هذا ما قاله رئيس "حزب البلد" محرم إنجه الذي تراجع عن خوض الانتخابات الرئاسية التركية لعام 2023 مفضلاً الانسحاب من السباق الرئاسي. وبغض النظر عن فحوى تصريحاته، فقد لفت المثل الذي استخدمه أنظار كثيرين.. فما قصة مثل "بعد خراب البصرة" الذي يبدو أنه ليس مشهوراً في العالم العربي فقط، بل يستخدم في تركيا أيضاً؟
قصة مثل "بعد خراب البصرة"
ذهب "بعد خراب البصرة" مثلاً على إثر تدمير المدينة ونهبها وسبي نسائها خلال ثورة الزنج التي جرت أحداثها في العصر العباسي.
بدأت القصة في القرن الثالث الهجري/التاسع الميلادي وكان مسرحها جنوب وشرق العراق زمن الخلافة العباسية. في ذلك الوقت كان الظلم الاجتماعي والسياسي سائداً، مما أدى إلى اندلاع ثورة سميت بـ"ثورة الزنج" والتي قادها علي بن محمد.
كانت تجارة الرقيق قد نشطت منذ أن أسس المسلمون مستعمرات على ساحل إفريقيا الشرقية عام 720، وتم جلب زنوج البانتو من شرق إفريقيا إلى العراق للعمل في الأراضي الزراعية قرب دجلة والفرات، لا سيما أنهم كانوا يعتبرون أيدياً عاملة رخيصة.
ومع مرور الوقت تضاعفت معاناة الزنج بسبب سوء المعاملة التي تلقوها، إذ كانوا يعملون بظروف قاسية دون توقف ودون مقابل يذكر، في بيئة انتشرت فيها الأوبئة والأمراض، فضلاً عن نظرة الاحتقار والازدراء التي كان ينظر إليهم بها.
وبحلول عام 869، لم يعد الزنج يطيقون ذلك الوضع، فقرروا القيام بثورة لنيل حقوقهم، وبالفعل تمكنوا من احتلال العديد من المزارع في البصرة التي كانت آنذاك تحت ولاية مصعب بن الزبير، ونصبوا زعيماً لهم أطلقوا عليه اسم "شير زنجي" أو "أسد الزنج".
ثورة الزنج في البصرة بقيادة الفارسي
استطاع الزنج توسيع نطاق سيطرتهم لتشمل البصرة ومناطق حولها، بقيادة علي بن محمد الفارسي وهو شخص من أصول إيرانية فارسية، كان شاعراً في بلاط الخليفة العباسي ثم حلم بأن يصبح صاحب سلطان، فادعى النسب العلوي وجاب في البلاد على أمل أن يحشد الأنصار من حوله ويشكل قوة يحقق بها طموحاته لكنه فشل في ذلك إلى أن قدم إلى البصرة.
هناك استغل الفارسي معاناة الزنج، وراح يحدثهم عن العدالة الاجتماعية، ويغلف دعوته لهم بطابع ديني بصفته علوي الأصل ويسعى إلى تطبيق الإسلام الصحيح.
وبالفعل استجاب له الزنج الذين سئموا ظروف حياتهم القاسية، وبتضافر قوتهم مع قيادة الفارسي الذكية، استطاعوا فرض سيطرتهم على البصرة.
لكن ثورة الزنج لم تكن سلمية، فقد وقعت خلالها الكثير من جرائم القتل والنهب وعومل أسرى الحرب معاملة الرقيق، ووقع دمار كبير في المدينة.
نصر بعد خراب البصرة
توجهت أعين الفارسي بعد ذلك إلى بغداد، وهنا بدأ الخليفة العباسي المعتمد بن المتوكل يستشعر خطورة ثورة الزنج فعهد إلى أخيه الموفق طلحة بن المتوكل محاربتهم، وقد واجههم طلحة في عدة مواقع لكن أياً منها لم تكن حاسمة، خاصة أن الخلافة العباسية كانت تشهد آنذاك العديد من الثورات الداخلية.
وفي إحدى مواقع طلحة مع الزنج، كان على وشك استرداد البصرة، لكن وردته أخبار عن تمرد في فارس فترك المدينة وتوجه إلى هناك.
هنا انتهز الفارسي الفرصة، وأحكم قبضته على البصرة مرة أخرى وأطلق العنان للزنج كي يتحكموا بالمدينة كما شاءوا فعاثوا فيها نهباً وسبياً حتى عم الخراب في المدينة.
وعلى إثر الدمار الذي حل بالبصرة، عاد طلحة ثانية بجيشه إلى هناك، وواجه الزنج بمعركة طاحنة انتهت بانتصاره ومقتل الفارسي واستسلام من معه.
وعلى الرغم من النصر الذي حققه العباسيون، لم يشعر أهل المدينة بالامتنان، بل رددوا بأسى وحسرة: نصر، بعد خراب البصرة.
ومنذ ذلك الحين ذهبت عبارة "بعد خراب البصرة" مثلاً للدلالة على أمر حسن يأتي بعد فوات الأوان.