معركة الهري (The Battle of El Herri) التي وقعت في 13 نوفمبر/تشرين الثاني 1914، تعدّ من أبرز الملاحم الثورية للقبائل الأمازيغية في المغرب، خلال تلك الموقعة تلقّت القوات الفرنسية المستعمِرة للمغرب أولى هزائمها الكبرى في شمال إفريقيا. ففي معركة الهري، تكبد الجيش الفرنسي أكبر خسارة عسكرية له في المغرب حتى ذلك الحين؛ إذ قتل في المعركة حوالي 700 من جنوده باعتراف فرنسي رسمي، ومن بينهم أكثر من 30 ضابطاً، وذلك في مواجهة قبائل محلية مسلحة ببنادق بدائية وفؤوس وأسلحة بيضاء، لكن تحت قيادة قائدٍ عسكريٍّ استطاع أن يفرض أسلوباً قتاليّاً مغايراً تماماً لما عرفه المستعمر الفرنسي، وهو القائد محمد بن حمو الزياني الشهير بـ"حمى الزياني".
وعُرفت تلك المعركة حامية الوطيس باسم "معركة الهري"، نسبةً إلى أرض الهري جنوب مدينة خنيفرة بمنطقة الأطلس المتوسط المغربية والتي شهدت أطوار تلك الملحمة الثورية.
جبال الأطلس وقبائل زيان.. التهديد الذي أرّق الفرنسيين لسنوات
في أعقاب المشهد الجديد للعالم في مطلع القرن العشرين، والذي هيمنت عليه القوى الاستعمارية، وجد المغرب نفسه محتلاً من قبل الفرنسيين، وذلك بعد توقيع معاهدة الحماية الفرنسية على المغرب من طرف السلطان عبد الحفيظ في 30 مارس/آذار 1912، والتي من خلالها أصبح الجنرال ليوطي هوبير رئيساً للحكومة الفرنسية بالمغرب.
كان أحد أهداف الجنرال ليوطي، الحاكم العام الفرنسي للمغرب، الرئيسية تأمين "ممر تازة" في سلسلة جبال الأطلس التلي، وبسط السيطرة الفرنسية عليه.
هدف الجنرال ليوطي اصطدم بمعارضة القبائل الأمازيغية في المنطقة، ومن بينها القبائل الزيانية بقيادة موحا أو حمو الزياني. عارض القائد الأمازيغي حمو التدخل الفرنسي في المغرب منذ عام 1877 وقاد آلاف المغاربة من القبائل الأمازيغية في عدة ثوراتٍ ضد المحتل الفرنسي.
ومع اندلاع الحرب العالمية الأولى في يوليو/تموز 1914، تصاعدت أطماع المحتل الفرنسي في إحكام السيطرة على سلسلة جبال الأطلس التلي، وأيقنت السلطات الفرنسية أنّ بقاء هذه الجبال دون سيطرة عسكرية فرنسية قد يهدد بقاء الفرنسيين في المغرب، وحتى الجزائر.
وقد لخّص الجنرال الفرنسي ليوطي دوافع احتلال بلاده لجبال الأطلس خلال تصريحاته التي أدلى بها في 2 مايو/أيار 1914، حين قال: "إن بلاد زيان تصلح كسند لكل العصاة بالمغرب الأوسط (الجزائر)، وأن إصرار هذه المجموعة الهامة في قلب منطقة احتلالنا وعلاقتها المستمرة مع القبائل الخاضعة هو خطر فعلي على وجودنا. فالعصاة والمتمردون والقراصنة مطمئنّون لوجود ملجأ وعتاد وموارد، وقربها من خطوط محطات الجيش ومناطق الاستغلال جعل منها تهديداً دائماً بالنسبة إلى مواقعنا، فكان من الواجب أن يكون هدف سياستنا هو إبعاد الزيانيين الساكنين بالضفة اليمنى لأم الربيع".
وبعد تمكّنه من إخضاع مدينة تازة الاستراتيجية الرابطة بين العاصمة المغربية وقتها (فاس) وبين مدينة وجدة الحدودية مع الجزائر، تحولت منطقة الأطلس إلى أولوية لدى الجيش الفرنسي.
"حمو الزياني".. بطل معركة الهري الذي حاولت فرنسا التفاوض معه عوض قتاله
في البداية، عمد الجنرال ليوطي إلى الدخول في مفاوضاتٍ مع حمو الزياني لثني قبائله على الاستسلام وقبول الحماية الفرنسية على سلسلة الأطلس التلي.
إذ تلقى حمو الزياني رسائل تودّد فرنسية مغرية، منها وعود بحصوله على هدايا نفيسة وإقراره قائداً لقبائل زيان في حال خضوعه لقوات الاحتلال الفرنسي، وحاولت السلطات الفرنسية استمالة هذا القائد الأمازيغي مستعملة وسائل محلية من قبيل بعض كبار وزراء الدولة المخزنية وأعيانها، لكنه رفض الاستسلام أو الدخول تحت الحماية الفرنسية.
فشلت المحاولات الفرنسية لإقناع حمو الزياني بالخضوع، وفي صيف 1914 أمر الحاكم العام الفرنسي بالمغرب الجنرال ليوطي، الجنرال بول بروسبر هنريز بتولي قيادة جميع القوات الفرنسية في المنطقة وشن هجوم على مدينتي تازة وخنيفرة، وهما جزءان حيويان من الممر، وهي الخطوة التي كانت مقدمة لمعركة الهري.
كانت القوات الفرنسية مشكلةً من عشرة أفواج و7 كتائب و7 قطع مدفعية، أي حوالي 15 ألف جندي و360 ضابطاً.
وعلى الرغم من المقاومة الشرسة للقبائل الزيانية في منطقة خنيفرة، نجح الجنرال هنريز باحتلال المدينتين بحلول منتصف يونيو/حزيران.
مع ذلك، لجأ حمو الزياني ومقاتليه إلى الجبل؛ حيث اعتمد هذا القائد في مقاومته على أسلوب حرب العصابات، واستهدف قوافل الجيش الفرنسي التي كانت تغادر المنطقة بعد استدعائها للمشاركة في الحرب ضد ألمانيا في الحرب العالمية الأولى، وأرغم بالتالي المستعمر على الاكتفاء بالدفاع عن مواقعه في خنيفرة بدل مواصلة الزحف.
وفي تحدٍ للقوات الفرنسية، قام حمو الزياني ومقاتلوه بالنزول من الجبال وإقامة مخيمات في ملتقى نهري سرو وشبوكة بقرية الهري، وذلك بعد هطول الثلوج على جبال الأطلس، الأمر الذي أغضب الفرنسيين وسرّع من المواجهة المباشرة الأكبر بين جيش حمو الزياني والقوات الفرنسية، وهي معركة الهري.
معركة الهري.. حين تكبّدت فرنسا أولى هزائمها في المغرب
قبل اندلاع معركة الهري، كانت السلطات الفرنسية تفاوض حمو الزياني مرة أخرى من أجل السلام، ونتيجة لتلك المفاوضات، خسر حمو الزياني خمس قبائل بدأت مفاوضات الخضوع للحكم الفرنسي.
كان الجنرال الفرنسي هنريز يعتقد أنّ مقاومة القبائل الزيانية تقترب من نهايتها وأن الحرب ستنتهي قريباً، كما كان الجنرال ليوطي يتمنى الحفاظ على الهدوء، ورفض مرتين الإذن بالهجوم على معسكر الهري.
ومع ذلك، قرر جنرال فرنسي يدعى "لافيردور" عصيان أوامر الجنرال ليوطي بالبقاء في خنيفرة وسير إلى مخيّم الهري مع الحامية الفرنسية بخنيفرة بأكملها تقريباً، والتي بلغ عدد قواتها 43 ضابطاً و 1232 جندياً في المجموع.
سار Laverdure في الساعة 2.30 صباح يوم 13 نوفمبر/تشرين الثاني 1914 إلى قرية الهري، وقام بمهاجمتها فجراً في الوقت الذي كان حمو الزياني ورجاله خارج المعسكر، وأحرقوا المخيّم وقتلوا من بقي فيه.
كانت السعادة تغمر الجنرال لافيدور، وهو يرى مخيّم الهري أطلالاً تنبعث منها سحب الدخان الكثيفة، ورأى أنه قد حسم المعركة سريعاً.
وما هي إلا ساعات قليلة حتى تواصل حمو الزياني مع شيوخ القبائل المغاربة الأطلسية، الذين لم يفكّروا ثانية واحدة في التحالف ودعم المقاومة، فانضمّت عشرات القبائل لصفوف المقاومة؛ أبرزها أشقرين وآيت نوح وآيت بويشي وآيت شارط وآيت بومزوغ وآيت خويا وآيت إحند وآيت يحيى وآيت سخمان وآيت إسحق تسكارت وآيت بوحدو والمرابطون.
وعلى الفور بدأت المقاومة في التحرك عبر تشكيلات متعددة، مستخدمين ما لديهم من أسلحة، بعضها كان عبارة عن أسلحة بيضاء وفؤوس ومطارق وعصي؛ حيث حاصرت الجنود الفرنسيين من كافة الجهات؛ ما أصابهم بالفزع والذهول في الوقت نفسه، لا سيما أن الجيش الفرنسي كان قد بدأ بالفعل مراسم الاحتفال بالانتصار السهل الذي تحقق على المقاومة في الهري، وهنا كانت المفاجأة.
كان الهجوم المضاد في معركة الهري لجيش حمو الزياني حاسماً، فقد أبيد جيش الجنرال لافيدور بشكلٍ كبير، فقد كانت الحصيلة النهائية للمعركة من أصل 43 ضابطاً و1232 جندياً، خسر الرتل العسكري 33 ضابطاً و590 جندياً، كلهم قتلوا، و176 جندياً إلى جانب 5 ضباط جُرحوا. ومن أصل 43 ضابطاً الذين شاركوا في العملية، 5 فقط عادوا سالمين، من بينهم 4 فرسان.
وستتفاقم خسائر الفرنسيين أكثر حين قام حمو الزياني في 16 نوفمبر/تشرين الثاني 1914، أي بعد ثلاثة أيام على معركة الهري، بالتصدي رفقة ثلاثة آلاف مقاوم، لزحف كتيبة فرنسية جاءت لنجدة وإغاثة ما تبقى من الجنود المقيمين بخنيفرة، وكبّده المجاهدون خسائر فادحة في الأرواح والعتاد.
ووصف أحد الضبّاط الفرنسيين الذين شاركوا في تلك المعركة، وهو الجنرال كيوم، معركة الهري في كتابه "البربر المغاربة وتهدئة الأطلس المتوسط (1912-1939)": "لم تمنَ قواتنا قط في شمال إفريقيا بمثل هذه الهزيمة المفجعة".