إمارة برغواطة، هي إحدى الإمارات التي نشأت إثر الثورات الخارجية التي شهدها المغرب الإسلامي، والتي انتهت باستقلاله عن الدولة الأموية، وهي الإمارة التي أثارت جدلاً واسعاً، كونها انتهجت ديانةً غريبةً عن التشريعات الإسلامية، كما أنّ زعيمها ادعى النبوة وجاء لأتباعه بقرآن جديد.
بقيت هذه الإمارة تنبض في عروق المغرب الأقصى طيلة أزيد من 4 قرون، حتى عهد المرابطين ومن بعدهم الموحدون أين اجتث أتباع كلٍّ من عبد الله بن ياسين والمهدي بن تومرت إمارة برغواطة من جذورها لتنتهي قصة واحدة من أكثر الدول المثيرة للجدل بالمغرب الأقصى.
إمارة برغواطة.. التي استغلت قمع الأمويين للخروج إلى النور
تنتسب إمارة برغواطة إلى قبيلة مصمودة البربرية، وهي إحدى أكبر القبائل الأمازيغية في المغرب الأقصى، والتي كان لها تاريخٌ طويلٌ مع الفتح الإسلامي لبلاد المغرب.
فقد كانت هذه القبيلة ترفض الإهانة التي تسبب بها بعض ولاة الأمويين الذين كانوا أكثر شدةً على القبائل البربرية، وزاد من تأجيج الوضع تعيين الأمويين لـ عبد الله بن الحباب والياً على القيروان، وعمر بن عبيد الله المرادي والياً على طنجة، هذا الأخير بالغ في إهانة البربر لدرجة أنه استخدمهم في الغزو، دون أن يعترف لهم بالفضل عند تقسيم الغنائم.
وهو الأمر الذي أدى إلى ثورة البربر ضد الحكام الأمويين، هذه الثورة أخذت شكلين: الردّة عن الإسلام، أو تشكيل إمارات مستقلة مثل إمارة بني صالح في النكور، وإمارة بني مدرار في سجلماسة، وإمارة الأدارسة في وليلي ثم في فاس، ويبدو أنّ البرغواطيين قد جمعوا بين الأمرين عند تأسيسهم إمارة برغواطة.
وتفيد المراجع التاريخية إلى أنّ نشأة هذه الإمارة كانت في منطقة تامسنا المعروفة حالياً بـ"الشاوية"، بين نهر أبي رقراق ونهر أم الربيع، وذلك سنة 742م أو 744م.
أمّا مؤسسها فيختلف المؤرخون حول أصله، فمنهم من ينسبه إلى طريف بن مالك الذي عبر إلى الأندلس على رأس حملة استطلاعية سبقت عبور جيش طارق بن زياد، وهو نفسه الذي سميت جزيرة طريف باسمه.
ومنهم من نسبه إلى رجل يسمى طريف بن مالك أيضاً، لكنه كان أندلسياً من أصل يهودي ومن برباط بالذات واعتنق الإسلام منذ بداية الفتح الإسلامي للأندلس، ثم تحول نسبه البرباطي على لسان الأمازيغ إلى النسب البرغواطي.
ولعلّ هذا الرأي الأخير، هو ما فسّر به المؤرخون سبب تسمية الإمارة بإمارة برغواطة، إذ أرجع البعض أنّ اسم قبائل برغواطة "اشتق من اسم مؤسس إمارتهم الذي جاء من وادي برباط جنوب الأندلس، فحرف اسم برباطي إلى برغواطي، ثم عُمّم الاسم على كل سكان الإمارة.
حكمها رجلٌ ادعى النبوة، وبقرآن أمازيغي
بعد أن أسس طريف بن مالك البرغواطي إمارته، جاء ابنه صالح ليبرز كأحد أهم حكامها، يصفه ابن أبي زرع في كتاب "الأنيس المطرب"، بكونه كان: "رجلاً خبيثاً يهودي الأصل، من ولد شمعون بن يعقوب -عليه السلام-، نشأ برباط من بلاد الأندلس، ثم رحل إلى المشرق، واشتغل بالسحر، فجمع منه فنوناً كثيرة".
ويضيف ابن أبي الزرع: "وقدم إلى المغرب فنزل بلاد تامسنا، فوجد بها قبائل من البربر، فأظهر لهم الإسلام والزهد والورع، وأخذ بعقولهم واستمالهم بسحره ولسانه، فأراهم من تمويهاته، فاستغواهم بذلك وأقروا بفضله واعترفوا بولايته، ووقفوا عند أمره ونهيه، فادعى النبوة، وتسمّى بصالح المؤمنين، وقال لهم: أنا صالح المؤمنين الذي ذكره الله في كتابه العزيز الذي أنزله على محمد عليه السلام".
وهمّ صالح في تأسيسِ دينٍ جديدٍ لأتباعه، وذلك بالخروج عن تعاليم الإسلام وشرائعه، وجنوحه في عدد من الأمور إلى الديانات المجوسية واليهودية، وامتزاجه أيضاً ببعض الممارسات والطقوس الشركية والوثنية التي كانت معروفة عند البربر قبل مرحلة الفتح الإسلامي لبلاد المغرب.
وفي تفاصيل الشرائع الدينية لمن وصفوا بـ"هراطقة المغرب"، أمر صالح بن طريف أتباعه إلى تغيير بعض صفات الوضوء، كما أنه غيّر شكل الصلاة، فقد ذكر المؤرخون أن بعض صلواتهم كانت إيماء بلا سجود، وأنهم كانوا يسجدون 3 سجدات متصلة ويرفعون جباههم وأيديهم عن الأرض مقدار نصف شبر، كما شرع لهم 10 صلوات كهذه، 5 بالنهار ومثلها بالليل، أمّا صلاة الجمعة فكان البرغواطيون يصلونها ضحى يوم الخميس.
وحسب المؤرخ أبو عبيد البكري البكري، شرّع صالح لأتباعه إفطار شهر رمضان وتقديم الصيام إلى شهر رجب، بالإضافة إلى تغييره كثيرا من الشرائع حول ما يتعلق بأحكام السرقة والقتل والزنا، والكثير من المسائل المرتبطة بالزكاة والعشور.
إذ استحدث حدوداً جديدة غريبة عن شريعة الإسلام مثل قتل السارق، حيث وجد وزعم هذا المتنبي أنه لا يطهره من ذنب السرقة إلا السيف، وحرم عليهم ذبح وأكل الدجاج والديكة، كما أمرهم بلحس بصاق ولاة أمرهم، فكان صالح بن طريف يبصق في أكفّ أتباعه فيلحسونه تبركاً ويحملون البصاق إلى مرضاهم للاستشفاء به.
كما زعم صالح بن طريف أنه لا حاجة للاغتسال من الجنابة إلا من الجماع خارج إطار الزواج، كما وضع لهم قرآناً باللغة الأمازيغية يقرؤونه في صلاتهم، ويتلونه في مساجدهم، إذ ادعى أنه نزل عليه وحياً من الله تعالى في 80 سورة، واعتبروا من شك في ذلك كافراً يجوز قتله.
قرآن برغواطة ضمّ سوراً بأسماء الأنبياء وغيرهم، ومنها: "سورة آدم وسورة نوح وسورة أيوب وسورة يونس وسورة موسى وسورة هارون وسورة الأسباط وسورة فرعون وسورة بني إسرائيل وسورة الديك وسورة الحجل وسورة الجراد وسورة الجمل وسورة هاروت وماروت وسورة إبليس وسورة الحشر وسورة غرائب الدنيا"، حسب ما أورده أبو عبيد البكري في كتاب المسالك والممالك.
نهاية البرغواطيين على يد المرابطين ثم الموحدين
مع بداية حكم المرابطين بدأت إمارة برغواطة في الأفول والضعف، وتحولت ملكية الأراضي من أصحابها البرغواطيين إلى القبائل الوافدة عليها، وذلك بعد أن نظّم المرابطين عدة حملات ضد الإمارة الخارجة عن الإسلام، كان آخرها حملة يوسف بن تاشفين الذي هاجمهم في معقلهم الذي لجأوا إليه بمدينة آسفي، لينهي بها دولتهم، ويجبرهم على العيش متفرقين في أنحاء المغرب الأقصى.
مع ذلك، كادت بذرة برغواطة أن تحيى من جديد، بعد الثورات والتمردات التي حدثت في عهد دولة الموحدين، لكن مؤسس دولة الموحدين عبد المؤمن بن علي خرج بجيش كبيرٍ لإخماد ثورة برغواطة، انهزم فيها في بادئ الأمر، لكن سرعان ما رجحت كفته فتغلب عليهم وقتل كل رجالهم، ولم يُبق إلا على الأطفال منهم، فكانت ثورتهم المتجددة بمثابة صحوة الموت.