عند فتح القسطنطينية سنة 1453م، لم يكن للدولة العثمانية القوة البحرية التي بإمكانها أن تدفع الغزاة الأوروبيين الذين انتفضوا بعد خسارة عاصمتهم المقدسة، وكان لزاماً على القادة العثمانيين التفكير بسرعة في تشكيل هذه القوة البحرية الرادعة لأطماع القوى الأوروبية الصليبية، فكان للأدميرال كمال ريس الذي ولد قبل فتح القسطنطينية بسنتين فقط الدور البارز في تشكيل الأسطول البحري العثماني، الذي نجح في فرض قواعد عسكرية جديدة في المتوسط، وبسط سيطرة الدولة العثمانية على الممر المائي الفاصل بين قارات العالم القديم لأكثر من مئتي سنة.
فعلاوةً على دوره في تأسيس البحرية العثمانية، فإنّ السيرة العسكرية لكمال ريس بصفته قائداً بحرياً بلغت الآفاق، فقد أصبح معروفاً في أوروبا، وخاصةً في إيطاليا وإسبانيا، بأسماء مثل Camali وCamalicchio، وذلك بسبب الانتصارات التي حققها في معظم المعارك البحرية التي خاضها ضد الأسطول البيزنطي والبندقي على وجه التحديد، وهي الانتصارات التي أعادت رسم خريطة القوى البحرية في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.
كمال ريس، الذي بدأ ركوب البحار بإنقاذ مسلمي الأندلس وحماية قوافل الحجيج،
وُلد كمال ريس في شبه جزيرة جاليبولي على ساحل بحر إيجة في حوالي عام 1451. اسمه الكامل هو أحمد كمال الدين، ووالده من أصل عثماني اسمه علي من مدينة كرمان في وسط الأناضول.
ومنذ صغره عشق كمال ريّس البحر، فأقبل على تعلّم الملاحة وهو شابٌ صغيرٌ حتى أصبح قائداً للأسطول البحري الخاص بجزيرة أغريبوز اليونانية، والتي كانت تحت السيطرة العثمانية.
خلال تلك الفترة، شارك كمال ريّس في عمليات إغاثة المهاجرين الأندلسيين وإنقاذهم من مطاردة السفن الإسبانية لهم في غرب المتوسط، وهو ما جعل صيته يُذاع بين الأندلسيين والبحارة العثمانيين حتى وصل لأسماع السلطان العثماني بايزيد الثاني، لتبدأ بعدها المسيرة الفعلية لكمال ريس في خدمة وقيادة البحرية العثمانية.
فقد كلفه السلطان بايزيد الثاني في العام 1487 بمهمة الدفاع عن آخر معاقل المسلمين في الأندلس، وهي جزيرة تابعة للأمير أبو عبد الله محمد الثاني عشر، حاكم غرناطة، وكانت أول اختبار عملي رسمي للقائد الشاب الذي استطاع أن يبهر الجميع بما حققه من نتائج.
بدون تردد، أبحر كمال ريس إلى الأندلس، وقام بإنزال قوة استكشافية من القوات العثمانية في ملقة، واستولى على المدينة والقرى المحيطة بها وأخذ العديد من الأسرى. ومن هناك أبحر إلى جزر البليار وكورسيكا، حيث أغار على المستوطنات الساحلية، قبل أن ينزل قواته بالقرب من بيزا في إيطاليا التي حوّلها إلى قاعدة للإغارة على المدن الإسبانية وإنقاذ المسلمين من جحيم الممالك المسيحية الإسبانية.
وفي عدة مناسبات بين عامي 1490 و1492، نجح كمال ريس في نقل المسلمين واليهود الراغبين في الهروب من إسبانيا إلى الولايات العثمانية.
ورغم سقوط إمارة غرناطة، آخر معاقل المسلمين في الأندلس سنة 1492، فإنّ جهود كمال ريس لم تتوقف في إنقاذ مسلمي الأندلس، فقد ظل يرتب في الغارات البحرية على السواحل والموانئ الإسبانية حتى سنة 1494.
موازاة مع ذلك، كان لكمال ريس مهمة أخرى لا تقل أهمية عن مهمته السابقة في إنقاذ مسلمي الأندلس، فقد عهد إليه السلطان بايزيد بحماية قوافل الحجيج عند قيادته للبحرية العثمانية، فسار بعدة حملات في سبيل ذلك.
أبو البحرية العثمانية الذي جعلها الأقوى في العالم لأكثر من 200 سنة
في عام 1495، قام بايزيد الثاني بتعيين كمال ريس قائداً عاماً للبحرية العثمانية برتبة أميرال، ليشرع بعدها كمال ريس في تجسيد استراتيجيته لتطوير الأسطول العثماني وجعله الأقوى في المنطقة.
وبالفعل بدأ كمال ريس في بناء السفن العملاقة "قادس"، وفي أقل من عام كان الأسطول العثماني يمتلك قادسين كبيرين، يمكن للواحد منهما حمل 700 جندي مدجج بالسلاح، وفي غضون عامين فقط تم تدشين 5 سفن عملاقة بجانب عشرات السفن الصغيرة، لكنّ السلاح الذي ابتكره كمال ريس، والذي انعكس بلا شك على أداء البحرية العثمانية في المعارك التي خاضتها، كان السبب الأساسي في جعل البحرية العثمانية المهيمنة على المتوسط لأكثر من 200 سنة، كما جعلت الأسطول البحري العثماني هو الأقوى في العالم، كان ذلك الابتكار هو المدفعية البحرية التي اخترعها كمال ريس.
قد حسم سلاح كمال ريّس الجديد معركة زونكيو البحرية ضد أسطول البندقية، وهي المعركة التي سجلت استخدام المدفعية البحرية لأوّل مرة في التاريخ.
جرحت تلك المعركة كبرياء أوروبا والبندقية، التي عزمت على الثأر من كمال ريّس وأسطوله، فقاموا بإعادة ترتيب صفوفهم مرة أخرى وهاجموا العثمانيين في ليبانتو، في مايو/أيار 1500م، ثم معركة كورفو في أغسطس/آب من العام نفسه، ثمّ معركة ليبانتو الثانية، التي كانت في أغسطس/آب 1500م، لكن أسطول كمال ريس ومدفعيتهم الحارقة كانت حاسمة في تلك المعارك، فمنيت البندقية وحلفاؤها بخسائر كبيرة فيما يُعرف بالحرب العثمانية- البندقية.
لم يكن كمال ريس قائداً بحرياً وحسب، بل كان خبيراً بعلوم الجغرافيا البحرية والخرائط، وذلك بفضل ابن شقيقه الأميرال الشهير بيري ريس، رسام الخرائط العالمي الذي رافق كمال ريس في غزواته البحرية.
سيطر على المتوسط لسنوات عديدة، لكنه مات بسبب عاصفة
وعلى مدار 9 سنوات كاملة قضاها على رأس البحرية العثمانية، سيطر كمال ريّس على البحر المتوسط طولاً وعرضاً، فقد خاض كمال ريس عشرات المعارك في مياه المتوسط، ففي الغرب نجح في تحقيق العديد من الفتوحات على حساب الأسطول الإسباني، الذي هزمه في العديد من المعارك، واستطاع أن يأسر عشرات السفن والقواديس العملاقة الإسبانية.
أمّا في شرق المتوسط، فقد هزم في أكثر من مواجهة الأسطول الصليبي، واستطاع هزيمة القوات الفرنسية في معركة لسبوس عام 1502، هذا بخلاف المعارك الضارية التي دخلها مع جيوش أوروبا في البحرين الأيوني والأدرياتيكي، حيث كان النصر حليفه في أغلبها.
وخلال إحدى رحلاته البحرية إلى مصر مطلع العام 1511، هبّت عاصفة شديدة في البحر، تحطمت على إثرها 17 سفينة من أسطول الشحن العثماني، كانت بينها سفينة كمال ريّس، الذي توفي رفقة جنوده في عرض البحر، لتنتهي قصة واحدٍ من أشهر البحارة العثمانيين في التاريخ، والذي أفزع أوروبا لأكثر من 15 سنة.