على تخوم جبال مدينة بجاية الجزائرية، قامت واحدة من أقوى الكيانات السياسية التي عارضت الحكم العثماني للجزائر، يتعلّق الأمر بإمارة بني عباس التي تأسست في القرن السادس عشر، وكانت آخر إمارة في المغرب الأوسط (الجزائر)، وطيلة فترة وجودها الممتد لـ300 سنة، طبعت علاقة الوفاق والصراع علاقة إمارة بني عباس والعثمانيين الذين حكموا الجزائر منذ القرن الـ16، ونفس الأمر مع الكيانات السياسية القبلية الجزائرية التي ظهرت خلال ذلك الوقت، إلى أنّ أنتهت الإمارة مع سقوط الجزائر في يد الاحتلال الفرنسي، فلم يتبق منها اليوم سوى بقايا القلعة، العاصمة الحصينة لإمارة بني عباس.
"بني عباس" الإمارة التي تحالفت ثم انقلبت على العثمانيين
كان القرن الـ16م، أهم مرحلةٍ في تاريخ الجزائر الحديث، خلال تلك الفترة كانت الجزائر في أصعب أوقاتها، فقد كان الاحتلال الإسباني يتربص بسواحلها، وكانت الخلافات السياسية بين قبائلها ومدنها شديدة، فقد كانت كلّ أسرة كبيرة أو قبيلة عريقة، تحكم بنفسها.
فكما كانت عائلة ابن القاضي تحكم في بجاية، وعائلة الثعالبة تحكم الجزائر، كانت أسرة بني مقران، إحدى الأسر التي كان لها دورٌ سياسي في الجزائر خلال القرن الـ16.
فقد حكمت أسرة بني مقران، التي يرجع نسبها للأدارسة قلعة بني عباس، وأقامت فيها كياناً سياسياً منفصلاً، يعدّ من أبرز الكيانات الجزائرية في تلك الفترة، وهي سلطنة بني عباس، وذلك بحسب بحث بعنوان "قيام إمارة أولاد مقران بقلعة بني عباس في مطلع القرن الـ16".
ففي البداية كانت سلطنة بني عباس تابعةً لإمارة كوكو التي كانت تحكم جزءاً من شرق الجزائر، لكن سرعان ما انفصلت تدريجياً، وأعلنت نفسها كياناً منفصلاً باسم سلطنة بني عباس منذ القرن السادس عشر، وبدأت في نسج علاقاتٍ مع القرى القبلية في الشرق.
ومنذ وقتٍ مبكرٍ، كانت علاقة سلطنة المقرانيين على علاقة سيئة بالحكم العثماني، فقد رفضت الإمارة الخضوع للعثمانيين، مما أدى إلى نشوب صراعٍ بين الحكومة العثمانية بالجزائر وهذه الإمارة.
مع ذلك، كان الوفاق والتحالف مسيطراً على عدة فترات من تاريخ هذه الإمارة مع العثمانيين، فقد تحالفت الإمارة مع الجيش العثماني من أجل تحرير بجاية وسواحلها من الاحتلال الإسباني، كما كانت رأس حربة في توسع الحكم العثماني في الجزائر بعد أن وافقت السلطات العثماني على منح أمراء بني عباس امتيازاتٍ واسعة مقابل الخضوع للحكم العثماني، لكن النقطة الفارقة في تاريخ هذه الإمارة كانت مقتل أمير إمارة كوكو المجاورة لبني عباس، ونهاية هذه الإمارة.
ساهم ذلك، في تحوّل إمارة بني عباس إلى قوة في الشرق الجزائري، مما أدى بها إلى التوسع نحو الجنوب، الأمر الذي جعلها تبدو قوة منافسة للعثمانيين، الأمر الذي كان يهدد بتقسيم الجزائر العثمانية، فكان من صالح رايس أنّ أطلق حملة عسكرية واسعة ضدّ بني عباس من أجل إخضاعهم وقبائل الجنوب للحكم العثماني من جديد.
خاض الجيش العثماني بقيادة صالح رايس معركة القلعة الأولى سنة 1553، ثم معركة القلعة الثانية سنة 1559، من أجل إخضاع الإمارة، وبالفعل نجح في قتل سلطانها السلطان عبد العزيز المعارض لحكم العثمانيين، والذي قام بجمع 18 مقاتلاً من أجل مواجهة العثمانيين والاستقلال ببجاية عن إيالة الجزائر، ولم ينته ذلك الأمر سوى بمقتل عبد العزيز، ومن ثمّ تولية ابنه الذي وافق على الخضوع، وصارت "بني عباس" إحدى روافد استقرار الحكم العثماني بالجزائر طيلة فترة حكم العثمانيين.
ومع ذلك، كانت تخرج بني عباس عن طوع العثمانيين بين الفينة والأخرى، فطيلة حكم العثمانيين للجزائر لم تستقر إمارة بني عباس على الخضوع للعثمانيين فترة طويلة، على الرغم من التحالف القائم بين أمرائها والحكام العثمانيين للجزائر.
القلعة.. العاصمة الحصينة لبني عباس
كانت القلعة عاصمة إمارة بني عباس نقطة القوة التي جعلت هذه الإمارة تلعب دوراً سياسياً بارزاً خلال الفترة الأولى من حكم العثمانيين، فقد كان الظهور الأوّل لقلعة بني عباس خلال عهد الدولة الحمادية في القرن الخامس عشر على يد عبد الرحمن القلعي، المؤسس الأوّل لها، ثم ابنه أحمد، الذي شهدت فترة حكمه لها ازدهار القلعة وتحوّلها إلى حصنٍ منيعٍ، وكان حكامها ينتمون إلى أسرة بني مقران، إحدى أهم الأسر العربية في بجاية، وذلك حسب مقالٍ بحثي بعنوان "قلعة بني عباس" للدكتورة مكاس مليكة.
وبحسب الدكتور عبد الحميد بودرواز في بحثه المعنون بـ"التحصينات الدفاعية بقلعة بني عباس ببجاية ما بين القرنين السادس عشر والتاسع عشر الميلاديين"، بنيت القلعة، عاصمة إمارة بني عباس، في موقعٍ استراتيجي جعلها محصنة بالدرجة الأولى من الغزو والحصار، فقد كان الوصول إليها بالأساس يرهق الجيوش، في هذا الصدد يذكر المؤرخ الجزائري حمدان خوجة: "وهي مدينة تسمى القلعة لا يتم الوصول إليها إلّا بشق الأنفس"، ويصف الرحالة الألماني هاينريش فون مالتسان بأنّه وعرٌ وممتدٌ عبر ممرٍ ضيّق منفتحٍ بين الصخور والحجارة، والوصول إلى القلعة أشبه بمعجزة.
مع ذلك نجح صالح رايس في تدميرها من خلال الحملة العسكرية التي قادها من أجل إخضاع الإمارة للعثمانيين خلال النصف الأوّل من القرن الـ16، ثم سرعان ما أعاد السلطان عبد العزيز مقراني، ومن بعده ابنه أحمد، بناءها وتحصينها من جديد.
تتميّز القلعة بأبوابها الأربعة، وأبراجها المطلة على بجاية والمسالك المؤدية إلى مدينة الجزائر، كما كان بالقلعة مصنع للسلاح، الأمر الذي حوّلها إلى ثكنة عسكرية خلال الفترة التي كانت فيها علاقة بني عباس مع العثمانيين سيئة.
ومع الصلح والهدنة التي تمت عقب هجوم صالح رايس، تحوّلت القلعة إلى مدينة للعلم والثقافة، فقد قصدها العديد من علماء الجزائر، في محاولة لاسترجاع مجد بجاية الحمادية.