على مرّ التاريخ، كان هناك كثير من الدول التي استبدلت عواصمها بمدن أخرى لأسباب مختلفة، ولكن أن تقوم دولة بنقل عاصمتها من مكان لآخر فهذا الأمر لم يحصل إلا من خلال عاصمة واحدة كانت في دولة الجزائر، وهي مدينة زمالة التي أسسها الأمير عبد القادر الجزائري خلال كفاحه ضد الاستعمار الفرنسي.
مدينة زمالة أول عاصمة متنقلة في التاريخ
على مدار 17 عاماً، استطاع الأمير عبد القادر الجزائري الصمود في وجه فرنسا، خاض خلال تلك الفترة كثيراً من المعارك التي انتصر في بعضها وخسر في بعضها الآخر.
هذا الصمود الطويل كان وراءه العديد من الأسباب، أبرزها كانت مدينة زمالة التي استطاع من خلالها الأمير الجزائري أن يدوخ الفرنسيين وراءه، ويجعلهم يلاحقون عاصمته من مكان لآخر لإسقاط دولته.
تأسيس إمارة معسكر بعد مبايعة عبد القادر أميراً
بعد عامين من احتلال الفرنسيين للجزائر في 1830، أسس الأمير عبد القادر وبمبايعة من الشعب الجزائري، إمارة أُطلق عليها العديد من الأسماء، مثل "إمارة عبد القادر" و"مقاومة عبد القادر"، و"إمارة معسكر"، وكانت مدينة معسكر التي تبعد نحو 60 كيلومتراً جنوب شرقي وهران، أول عاصمة لهذه الدولة التي أخذت على عاتقها مقاومة الاحتلال الفرنسي.
كان نظام هذه الدولة بسيطاً جداً ويشبه نظام حكم "الدايات"، وكان الأمير هو رأس هرم الدولة، ويحكمها من خلال ديوانه ومجلس وزرائه، وذلك بمساعدة مجلس الشورى الذي يضم العديد من كبار العلماء ويرأسهم قاضي القضاة.
قسم الأمير عبد القادر الجزائري دولته إلى 8 مقاطعات، لكل ولاية "أغا" يشرف عليها، آخذاً بعين الاعتبار من خلال تقسيمه هذا التأثيرات المحلية والتاريخية القبلية لكل منطقة.
ومن أجل تشكيل جيش لهذه الدولة، فُتح باب التجنيد لجميع المناطق والقبائل، وكان مفتوحاً لجميع الأعمار، كما دعا الأمير أيضاً إلى الجهاد ضد الفرنسيين، فيما أطلق على جيشه اسم "الجيش المحمدي".
ولأن الأمير الجزائري كان يعلم أن إمارته الجديدة هي أمل الجزائريين لمنع الفرنسيين من احتلال بلادهم، بدأ في تدريب جيشه وتجهيزه بأفضل الوسائل، ليكون أول أمير يؤسس جيشاً وطنياً في تاريخ الجزائر الحديث.
سقوط مدينتي معسكر وتاقدامت وإنشاء مدينة زمالة المتنقلة
مدينة معسكر العاصمة بقيت على حالها حتى ديسمبر/كانون الأول 1835، حتى استطاع المارشال الفرنسي برتران كلوزيل دخولها وإحراقها، مجبراً الأمير عبد القادر على مغادرتها باتجاه قاعدة حديثة كان قد أنشأها في نواحي تيهرت القديمة وهي تاقدامت، وبقي فيها حتى العام 1841.
وفي ذلك العام عندما سقطت تاقدامت أيضاً، تحوّل الأمير عبد القادر إلى ما يشبه حروب العصابات، وبالتالي فإن أكثر ما كان يناسبه حينها هو أن تكون لديه عاصمة متنقلة، ينقلها معه أينما حل وارتحل للتملص من الفرنسيين، وأيضاً لحرمان الفرنسيين من إسقاط عاصمته، باعتبار العاصمة رمزاً لأية دولة.
وهنا أنشأ عبد القادر عاصمته المتنقلة "زمالة" التي اشتق اسمها من اللهجة الجزائرية بما معناه "تجمّع الخيام".
لم تكن زمالة عاصمة مثلما هو متعارف عليه في بقية عواصم العالم، ليست فيها بنايات وشوارع ومعالم حضرية، وإنما كانت عبارة عن مجموعة من الخيام المنصوبة على شكل دوائر، داخل كل دائرة قبيلة.
إضافة إلى أنّ هذه المدينة لم تكن ثابتة في موقع جغرافي محدد وإنما متنقلة، وتنقلت كثيراً من المرات من غرب الجزائر إلى وسطها حتى انتهى بها المطاف إلى شرق المغرب.
وليس ذلك وحسب، وإنما كان لتلك المدينة أيضاً مثلما كان لدى عاصمته القديمة معسكر، مجلس للشورى ورئيس قضاة.
مدينة كاملة ومتكاملة
كما شملت المدينة، وفقاً للباحث الفرنسي في التاريخ برونو إيتيان، بكتابه "عبد القادر الجزائري"، صانعي أسلحة وسراجين وخياطين، والعديد من أصحاب المهن الأخرى، مما جعل مدينته عبارة عن مجتمع منظم عاش فيه نحو 30 ألف نسمة.
وأضاف إيتيان أنّ للمدينة أيضاً سوقاً يؤُمّه عرب التلّ، تتم فيه المتاجرة، أما الحبوب فكانت تأتي من خلال تجارة بين تجار زمالة وقبائل تعيش في شمال الجزائر.
سقوط العاصمة المتنقلة زمالة ونفي أميرها إلى دمشق
في 16 مايو/أيار 1843 أي بعد 13 سنة من الغزو الفرنسي، قامت كتيبة من الجيش الفرنسي بقيادة دوق أومالي، ابن ملك فرنسا لويس فيليب الأول، بالاستيلاء على جزء من زمالة الأمير عبد القادر الجزائري.
ورغم ذلك بذل الأمير الجزائري جهده في محاربة الفرنسيين لاستعادة ما أخذوه، من خلال دعم من السلطان المغربي عبد الرحمن، والإنجليز من خلال دعمهم بالسلاح، قبل أن يتخلى عنه المغاربة بتوقيع معاهدة طنجة في عام 1844 والتي تنص على موافقة الحكومة المغربية على تسليم الأمير عبد القادر ومحاولة إنهاء الجهاد المسلح ضد المستعمر الفرنسي وتسليم الجزائر لهم.
في عام 1847 استسلم الأمير للفرنسيين، موقّعاً معهم وثيقة الاستسلام "معاهدة لاموريسيير"، التي نصت على نقله إلى العاصمة السورية دمشق.
ورغم ذلك، فقد تم اعتقال الأمير عبد القادر مدة 5 سنوات، نقلوه خلالها إلى عدة أماكن، من بينها (تولون، وباو، وبوردو، وأمبواز)، قبل أن يطلق نابليون الثالث سراحه وينفيه إلى مدينة دمشق في عام 1852، والتي عاش فيها متفرغاً للأدب والشعر والكتابة حتى وفاته في 23 مايو/أيار 1883 عن عمر ناهز 76 عاماً، ليدفن إلى جوار الشيخ "ابن عربي" في منطقة الصالحية.