خلال القرن الـ19، كانت الصومال مسرحاً للتدخلات الأجنبية، فقد تنافس على البلد العربي أبرز القوى الاستعمارية في تلك الفترة، فقد اجتمعت بريطانيا وفرنسا وإيطاليا ثمّ ألمانيا للسيطرة على الصومال وأجزاءٍ واسعة من القرن الإفريقي، كما كانت على المنطقة أيضاً أعين جيرانها في إثيوبيا وحلفائها في مصر والدولة العثمانية.
ومع نهاية ذلك القرن، كان الساحل الصومالي يعتبر رسمياً إحدى المحميات البريطانية في منطقة القرن الإفريقي، وفي تلك الأثناء خرج الإمام الصومالي سيد محمد عبد الله حسن الملقّب بالإمام محمد نور، معلناً الجهاد ضد القوى الاستعمارية، ومعلناً قيام "دولة الدراويش" أو (The Dervish State) التى استمرّت 21 عاماً في مقارعة أعتى الجيوش العالمية.
"الملا المجنون" أمير دولة الدراويش الذي تحدّى البريطانيين عقدين من الزمن
وُلد سيد محمد بن عبد الله حسن نور عام 1856 في منطقة نوجال شمال شرقي الصومال، وينتمي محمد نور إلى أسرة تنحدر من أصول عربية، كما أنه نشأ في وسط متديّن، إذ حفظ القرآن الكريم في طفولته وتلقى العلوم الشرعية في الزوايا الدينية التقليدية، ثم سرعان ما أصبح خطيباً بين المساجد الصومالية في سنّ صغيرة، ليشتهر اسمه في كامل ربوع الصومال باسم الإمام محمد نور.
ومع الأوضاع السياسية التي تشهدها الصومال كان الإمام محمد نور ينتظر الفرصة المناسبة من أجل جمع أتباعه على راية الجهاد وإعلان الثورة على البريطانيين الذين احتلوا الساحل الصومالي بالكامل، وشرعوا في قمع السكان وسلب البلاد وخيراتها.
فقد كان الإمام محمد نور، أوّل من طالب بإقامة دولة إسلامية عقب سقوط الخلافة العثمانية في شرق إفريقيا، وذلك لمواجهة المد الاستعماري الذي استهدف شرق إفريقيا.
ويعتبر المؤرخون أن الرحلة التي قادت محمد نور إلى الحج سنة 1895، كانت نقطة الانعطاف في مسيرته الدعوية والجهادية، فخلالها تخمّرت فكرة الثورة والإعلان عن قيام إمارة إسلامية في الصومال، وذلك بعد تعرفه على الطريقة الصوفية الصالحية، وتتلمذ على يد مؤسسها الشيخ "صالح السوداني".
وبعد عودته من الحج عمل على نشر الطريقة الصوفية في الساحل الصومالي، إضافة إلى دعوته للجهاد ضد الاستعمار البريطاني، وتأسيس دولة إسلامية في الصومال. وتنفيذاً لأفكاره ودعوته، شرع في عملية كبرى للتأليف بين القبائل الصومالية لتوحيدها، كما راسل العديد من ملوك الصومال يدعوهم إلى الجهاد، واختار اسم "الدراويش" لدولته؛ لكيلا تثير أي انتماء عرقي أو ديني بين أتباعه.
دولة الدراويش التي تحالفت مع العثمانيين وحاربت 3 دول عظمى
بحسب الورقة البحثية بعنوان "المقاومة الشعبية ضد الاحتلال البريطاني 1899 م-1921م"، بدأت الثورة الصومالية ضد بريطانيا عام 1897، حين حدثت اشتباكات بين المسلمين والمبشرين على خلفية مقتل مؤذن على يد أحد المبشرين في مدينة بربرة، ما أدى إلى استفزاز مسلمي الصومال الذين تكررت مطالبهم بطرد المبشرين.
خلال هذه الثورة، لمع نجم الإمام محمد نور الذي ألقى خطباً حماسية مناهضةً للاستعمارين البريطاني والإيطالي للسواحل الصومالية، ومناوئة للأحباش الإثيوبيين الموالين للاستعمار.
وأمام الشعبية التي اكتسبها، عملت السلطات الاستعمارية الصومالية على تشويه الإمام محمد نور بوصفه بـ"الملا المجنون"، كما أثارت الأحباش ضد الثورة الصومالية، حتى شهد عام 1899 هجوماً من قبل الأحباش على مدينة جكجكا في إقليم الأوجادين الصومالي حينها، مما أدى بالإمام محمد نور إلى تشكيل جيشٍ باسم الدراويش، نجح في دحر الهجوم.
بعدها شرع الدراويش في التوسع في أقاليم الصومال بالكامل، ونجحوا في السيطرة على أغلب مناطق الصومال البريطاني (أرض الصومال) ومنطقة الأوجادين؛ ما أدى إلى انسحاب بريطانيا من المناطق الصومالية الداخلية، والاكتفاء بمواقعها على الساحل، خاصةً ميناء بربرة.
ثم عمل الإمام محمد نور على تأسيس هياكل الدولة وتنظيم شؤون الزراعة والجيش، وأنشأ مؤسسات قانونية وتشريعية وبدأ ينشر أفكاره بين أبناء الصومال والقرن الإفريقي.
في عام 1916، قبل الإمام محمد نور الانضواء تحت لواء الخلافة العثمانية طالباً منها الحماية، ولكنها لم تقدم له المساعدة التي احتاجها، فقد كانت مشغولة بالثورة العربية التي تزامنت مع ثورته، مع ذلك منحه السلطان العثماني محمد رشاد لقب أمير الصومال عام 1916.
وطوال الفترة من عام 1900 وحتى 1920، فشلت كل الحملات البريطانية للقضاء على ثورة الإمام محمد نور ودولته، فأغلب المواجهات العسكرية انتهت لصالح دولة الدراويش، ما أدى إلى انحسار الوجود البريطاني في قلب الصومال والاكتفاء بالمواقع الساحلية فقط.
نهاية دولة الدراويش بوفاة أميرها الإمام محمد نور
إزاء هذا الفشل البريطاني العسكري الذريع أمام دولة الدراويش، دخلت عدة قوى عسكرية أوروبية على الخط، من أجل القضاء على هذه الدولة الفتية، لكن جيش الدراويش كان صامداً حتى آخر لحظة.
فشنت القوات الفرنسية والإيطالية عدّة حملات لمساندة البريطانيين للقضاء على دولة الدراويش، لكن كل تلك الحملات كان مآلها الفشل، فحتى عام 1920 ظلت دولة الدراويش، وعاصمتها "تاليح"، قادرة على رد الهجمات المتعددة من بريطانيا وحلفائها.
في سنة 1914، وأمام الفشل العسكري الذريع، شكَّل الجيش البريطاني وحدة خاصة تحت مسمى the Somaliland Camel Corps، أنشئت خصوصاً لمواجهة دولة الدراويش، احتوت هذه الوحدة على سربٍ كاملٍ من قاذفات Airco DH.9A التابعة لسلاح الجو الملكي، كما تم تخصيص أول حاملة طائرات بريطانية HMS Ark Royal لتنفيذ هذا الغرض.
في 19 يناير/كانون الثاني 1920، شرعت القوات البريطانية في هجومها على دولة الدراويش، وكان ذلك الهجوم هو الأول الذي تستعمل فيه الطائرات الحربية في إفريقيا.
اتبعت القوات البريطانية في هجومها سياسة حرب البرق، حيث تزامن الهجوم البري على معاقل الدراويش في مقديشو مع غارات جوية مكثفة أدت خلال ثلاثة أسابيع فقط إلى إفقاد دولة الدراويش توازنها التكتيكي.
أجبر ذلك القصف العنيف الإمام محمد نور على الانسحاب من مقديشو، وفرّ في وقت لاحق إلى إثيوبيا بعد أسر عدد من عناصره وأفراد عائلته.
وفي أواخر 1920، توفي سيد محمد بن عبد الله حسن نور متأثراً بمرض الإنفلونزا ودُفن في بلدة إيمي بإقليم أوغادين، وأقيم نصب لتخليده وسط العاصمة مقديشو، وبذلك انتهت دولة الدراويش التي تحدت ثلاث دول عظمى.