عاش القراصنة عصرهم الذهبي في الحقبة الممتدة بين خمسينيات القرن الـ17 وثلاثينيات القرن الـ19، وقد لعبت القرصنة البحرية دوراً مؤثراً في تاريخ الدول الكاريبية والإمبراطورية البريطانية.
كان القراصنة يجوبون المحيط الأطلسي بين غرب إفريقيا والأمريكتين الشمالية والجنوبية للاستيلاء على السفن التجارية، واعتبروا قُبالة سواحل أمريكا الوسطى ملاذاً آمناً لهم.
ولكن بعض أشهر قراصنة العصر الذهبي فضّلوا النشاط في مكانٍ آخر، بعيداً عن الأطلسي.. اتخذوا من المحيط الهندي مقراً لهم، وكانت لهم صولات وجولات، وقصصٌ مثيرة بقيت راسخة في التاريخ.
والعصر الذهبي للقراصنة يُمكن تقسيمه إلى ثلاث حقبات:
1- حقبة قراصنة البحر الكاريبي (من 1650 إلى 1680)، وقد تميزت بهجوم البحارة الإنجليز والفرنسيين المُقيمين في جامايكا وجزيرة السلاحف على المستعمرات الإسبانية، مسيطرين على الملاحة في البحر الكاريبي والجزء الشرقي من المحيط الهادئ.
2- حقبة ما بعد الخلافة الإسبانية (من 1716 إلى 1726)، والتي أصبح فيها البحارة الأمريكيون والإنجليز والقراصنة عاطلين عن العمل بعد حرب الخلافة الإسبانية، ما دفعهم إلى الانخراط بأعمال القرصنة في الكاريبي والمحيط الهندي، إضافةً إلى الساحل الشرقي لأمريكا الشمالية وسواحل غرب إفريقيا.
3- حقبة جولة القراصنة (تسعينيات القرن الـ17)، وقد تميزت برحلات بحرية ذات مسافات طويلة انطلاقاً من الأمريكتين لسرقة أهداف تابعة لكل من المسلمين وشركة الهند الشرقية في المحيط الهندي والبحر الأحمر.
كان المحيط الهندي في القرن الـ17 يَعُجّ بالسفن التجارية التي تنقل البضائع الثمينة بانتظام، كالحرير والتوابل، بين إمبراطورية مغول الهند والحجاز.
وكانت تُنقل أيضاً الكنوز بواسطة شركات الهند الشرقية، والبريطانية، والفرنسية، والهولندية. يتم ذلك عن طريق السفن المُتجهة شرقاً، التي كانت تحمل الأموال لتمويل عمليات تلك الشركات في المنطقة، بينما كانت السفن العائدة إلى الغرب تحمل الحرير الفاخر والمجوهرات والتوابل.
استهوت تلك الكنوز والبضائع الثمينة العديد من القراصنة، الذين كانوا ينشطون آنذاك في المحيط الأطلسي بالقرب من سواحل الأمريكتين الشمالية والجنوبية، وبالأخصّ في البحر الكاريبي. فقرروا نقل عملياتهم إلى المحيط الهندي، الذي وصلوا إليه عبر رأس الرجاء الصالح في جنوب إفريقيا.
"سانت ماري".. الملاذ الآمن لقراصنة المحيط الهندي
عند وصولهم إلى المحيط الهندي، كان القراصنة بحاجة إلى ميناء آمن لإعادة تجهيز سفنهم والهروب من العواصف، وللاستمتاع بغنائمهم أيضاً. فوجدوا هذا المكان في مدغشقر، على بعد نحو 400 كلم عن ساحل القارة السمراء.
ففي تلك الفترة من القرن الـ17، كان السكان الأصليون لمدغشقر قد نجحوا في صدّ محاولات الدول الاستعمارية الأوروبية الكبرى للاستحواذ على بلدهم الواقع في منطقة استراتيجية، على الخطوط البحرية الرئيسية بين أوروبا وآسيا.
ولكن رجلاً أوروبياً واحداً صنع الاستثناء ونجح في استمالة سكان "جزيرة سانت ماري" الصغيرة، التابعة لجزيرة مدغشقر الكبرى، وجعل منها ملاذاً آمناً للقراصنة في سنة 1691.
وهذا الرجل ليس إلا تاجراً إنجليزياً يُدعى آدم بالدريدج، كان قد لجأ إلى "سانت ماري" هرباً من العدالة البريطانية بعد اتهامه بارتكاب جريمة قتلٍ في جامايكا (البحر الكاريبي)، التي كانت مستعمرة بريطانية وقتئذ.
ووفقاً لموقع Stronghold Nation، فإنّ آدم بالدريدج هرب من جامايكا عام 1684، حتى وصل إلى "سانت ماري"، حين تحوّل إلى قرصان وأنشأ في الجزيرة الصغيرة قاعدةً أساسية لانطلاق عملياته.
كان بالدريدج يسيطر على كل الطرق البحرية بين "سانت ماري" والميناء الرئيسي لمدغشقر، بفضل أسطولٍ بحري صغير مدعوماً بـ"قوات برية". كما استطاع أن يفرض إتاوات لحماية المستودعات، وإتاوات أخرى على القبيلتين المتحاربتين على أرض الجزيرة.
وسرعان ما اشتهر لدى القراصنة أن آدم بالدريدج قد أنشأ مكاناً آمناً للنهب وللاستمتاع، فأصبحت جزيرة "سانت ماري" ذائعة الصيت، كمكانٍ آمن للقراصنة.
وبالفعل، فإن أكثر من ألف قرصانٍ لجأ إلى "الحصن المنيع" لآدم بالدريدج خلال تسعينيات القرن السابع عشر. وكانوا يمضون أوقاتهم، بين غارةٍ وأخرى، داخل الحانات وبيوت الدعارة التي أنشأها التاجر الهارب من جامايكا.
لاحقاً في العام 1697، سيختفي أثر آدم بالدريدج من الجزيرة 1697، بعدما ثار ضدّه السكان الأصليون -قادة القبيلتين المتحاربتين- بسبب مغامرته باختطاف البعض منهم وبيعهم لتجار الرق.
بعض الروايات والمراجع التاريخية تُشير إلى أنه قد قُتل، فيما تقول أخرى إنه هرب إلى إحدى المستعمرات الأمريكية.
أسطول مغول الهند تعرّض لأكبر قرصنة في التاريخ
في تلك الفترة، كانت الرحلات البحرية بالمحيط الهندي غالباً ما تنقل المسلمين الأثرياء، المتوجهين إلى مكة لأداء فريضة الحج.
لذلك فإن السفن التابعة لسلطان مغول الهند أورنكزيب، الذي حكم إمبراطوريته من العام 1658 إلى 1707، كانت الأكثر تعرضاً لهجمات القراصنة؛ لِما كانت تحمله من كنوزٍ ثمينة تابعة للحجاج الأثرياء الذين كانوا على متنها.
وسلطنة مغول الهند هي إمبراطورية إسلامية حكمت أجزاءً كبيرة من شبه القارة الهندية وأفغانستان، وقد أسّسها ظهير الدين بابر سنة 1526 واستمرت لأكثر من ثلاثة قرون، قبل أن تسقط تحت نير الاستعمار البريطاني في عهد آخر سلاطينها، محمد بهادر شاه.
وأشار موقع National Geographic إلى أن أكبر غنيمة في تاريخ القراصنة كله، وليس في المحيط الهندي فقط، قد تكون تلك التي استولى عليها القرصان الإنجليزي هنري إيفري عام 1695، بعد مهاجمته للأسطول التابع لسلطنة مغول الهند العائد من مكة.
وللقيام بتلك العملية، تحالف إيفري مع قادة قراصنة آخرين على غرار مواطنه توماس تاو، فنجحوا في الاستيلاء على مئات الآلاف من الجنيهات الذهبية والفضية، إضافة إلى مجوهرات ثمينة تُقدَّر قيمتها في الوقت الحالي بعشرات الملايين من الدولارات.
استحوذ هنري إيفري على النصيب الأكبر من تلك الغنيمة، ومنح جزءاً صغيراً جداً للقراصنة الآخرين، بعدما توفي توماس تاو خلال المعركة التي جرت مع حراس الأسطول.
السفينة البرتغالية الشهيرة سقطت بين أيدي القراصنة
ذاع صيت قراصنة آخرين في المحيط الهندي، إلى جانب اسم هنري إيفري. فقد اشتهر الإنجليزي جون تايلور والفرنسي أوليفييه ليفاسور، اللذان اشتركا في القيام بإحدى أشهر عمليات القرصنة عبر التاريخ.
ففي العام 1721، استولى القرصانان الشهيران على "الغليون" البرتغالي الكبير (سفينة شراعية ضخمة) الذي حمل اسم "نوسا سينهورا دو كابو". وقد كان على متنه كلّ من الأسقف غوا، "بطريرك جزر الهند الشرقية"، إضافةً إلى الدوق اريسيرا ونائب ملك البرتغال في الهند البرتغالية، الذين كانوا في طريق عودتهم إلى البرتغال.
كانت السفينة تحمل بضاعة ثمينة جداً. وفضلاً عن مجوهرات بقيمة 500 ألف جنيه إسترليني، كان على متنها حرير وبورسيلين آسيوي نادر، بقيمة 375 ألف جنيه إسترليني.
انتهى العصر الذهبي للقراصنة في المحيط الهندي مع بدايات القرن الـ19، عندما بدأت الدول الأوروبية الكبرى في استعمار كل المنطقة، ما صعّب على القراصنة القيام بعملياتهم بحريةٍ تامة.