طوال عصورٍ طويلة، كان البحر الأبيض المتوسط بحيرةً بيزنطية، تسيطر عليها السفن الرومانية إلى حدّ أن سمّي المتوسط ببحر الروم لقرونٍ عديدة، قبل أن ينجح المسلمون في وضع حدٍّ لسيطرة البيزنطينيين على المتوسط، وتحويله إلى بحر للمسلمين لقرون طويلة. بدأ هذا التحوّل في سنة 655م، عندما وقعت معركة ذات الصواري، أوّل معركة بحرية للمسلمين في التاريخ، والتي من خلالها نجح المسلمون في فرض واقعٍ جديدٍ في المتوسط، كما أنها وضعت سلاحاً جديداً بيد المسلمين لطالما كان حاسماً في الفتوحات والغزوات لقرون، وهو سلاح البحرية.
فكرة أسطول بحري للمسلمين بدأت منذ عهد الخليفة عمر
وبالرغم من أنّ العرب المسلمين عرفوا ركوب البحر منذ هجرتهم المبكرة إلى الحبشة، وتنبأ النبي محمد، عليه الصلاة والسلام، بركوب المسلمين للبحر، فإنّ الخليفة عمر بن الخطاب كان يفضّل سفن الصحراء على سفن البحار، معتبراً أنّ البحر حصن طبيعي بينه وبين أعدائه.
وبهذا المنطق، رفض الخليفة الراشدي طلباً من والي الشام آنذاك، معاوية بن أبي سفيان، بتشكيل أسطولٍ بحري للردّ على هجمات البيزنطيين على سواحل الشام، كما أنّه عزل القائد العسكري العلاء بن الحضرمي، لأنه ركب البحر لقتال الفرس.
انتظر المسلمون حتى عهد الخليفة عثمان بن عفان حتى يدخلوا البحر للقتال، وذلك بعد أن أعجب الخليفة الراشدي الثالث بفكرة إنشاء أسطول بحري للمسلمين، وأشار إلى معاوية بن أبي سفيان، والي الشام حينها، بالعمل على إنشاء الأسطول البحري الإسلامي، وذلك في إطار التطوير والعمل على زيادة ورفع كفاءة الجيوش الإسلامية، حيث أشرف معاوية بنفسه على مشروع إنشاء هذا الأسطول البحري الكبير.
جمع المسلمون سفن هذا الأسطول من موانئ الشام ومصر، وبعدها انطلقوا إلى صناعة السُّفن في دور الصّناعة، وأدخلوا الأسلحة على هذا الأسطول، ليُصبح هذا الأسطول أول أسطول بحري حربي اتّخذه المسلمون في الاستراتيجية العسكرية.
ذات الصواري.. المعركة الأولى للأسطول البحري الإسلامي
يقول عنها المؤرخون المسلمون إنّها أعظم المعارك البحرية على مرّ العصور، ويصنّفها آخرون على أنها أقوى معركة شهدها المتوسط منذ موقعة أكتيوم سنة 31 قبل الميلاد. ذات الصواري هي أوّل معركة بحرية في التاريخ الإسلامي، جرت سنة 655م، وكانت بقيادة القائد العسكري عبد الله بن أبي السرح، بينما كان يقود الأسطول البيزنطي قسطنطين بن هرقل.
وحدثت المعركة في أعقاب محاولة غزو الأسطول البيزنطي للإسكندرية، من أجل استعادة السيطرة البيزنطية على مصر.
بحسب medieval chronicles، خلال هذه المعركة البحرية، كان الأسطول البيزنطي يرفع صليباً على صواريه، بينما كان الهلال يرتع على صواري المسلمين، مما أعطى المعركة اسمها "ذات الصواري".
وعندما التقى الأسطولان، لم يكلف الإمبراطور قسطنطين عناء تشكيل سفنه والتخطيط لهجومه، إذ كان يتوقع سهولة المعركة، بعد أن كان يعتقد أنّ العرب ليست لديهم خبرة في الحروب البحرية، ويمكن سحقهم في هجوم واحد.
في بداية المعركة كانت الرياح في موضعٍ معاكسٍ للأسطول العربي الإسلامي، أي إنها كانت مواتية للبيزنطيين، مما ساعد البيزنطينيين على اتخاذ قرار الهجوم، لكنها سرعان ما توقفت عن الهبوب تماماً بعد اندلاع المعركة.
خلال تلك المعركة استخدم العرب تكتيكاً غير مسبوق بربط سفنهم بالحبال والسلاسل، بحيث كان من المستحيل اختراق أسطولهم، ثم سرعان ما اقترب المسلمون من البيزنطيين بهذا التكوين الصلب واندفعوا إلى أسطح السفن البيزنطية التي لا يمكن المناورة بها.
وبعد وقتٍ قصيرة، صارت سفن المسلمين ملتحمةً في سفن البيزنطينيين، حتى أن صواري السفن تشابكت بين بعضها البعض.
تحوّلت المعركة البحرية إلى معركة بالسيوف، وكأن الجيشان يقاتلان على الأرض، وهذه الميزة يبدو أنّها أعطت تفوقاً للمسلمين، الذين يجيدون القتال بالسيف، مما ساعد على حسم المعركة.
استمرت المعركة قرابة يومين، في النهاية، هُزم الرومان بشدة. وفقاً لمؤرخ القرن التاسع ثيوفانيس: "كان البحر يتدفق بالدم والأمواج، وتراكمت الجثث على الشاطئ".
وعلى الرغم من أن عدد جيش المسلمين في معركة ذات الصواري كان قليلاً، مقارنة بحجم جيش البيزنطينيين، إلّا أن النصر كان حليفهم.
مع هروب البيزنطيين، دمرت عاصفة ما تبقى من أسطولهم المحطم، وتمكن قسطنطين من الهروب من خلال تبادل الزي الرسمي مع أحد ضباطه.
بحسب "سلسلة الفتوحات الإسلامية موقعة ذات الصواري"، بانتصار المسلمين في موقعة ذات الصواري، تغيّرت خريطة النفوذ في البحر المتوسط، وصار بحيرة إسلامية طيلة قرون، تحكمها الأساطيل الإسلامية من الشرق إلى الغرب، كما ساهم سلاح البحرية في فرض واقعٍ جديد على البيزنطينيين، من خلال بروز البحرية العثمانية كقوة كبرى في المتوسط لثلاثة قرون كاملة.