يتفق معظم المؤرخين والمفكرين، المسلمين وغير المسلمين، بأنّ عبد الرحمن ابن خلدون هو مؤسّس علم الاجتماع الحديث، من خلال كتابه الشهير "المقدمة" الذي فسّر فيه -بإسهاب- كل نظرياته الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.
وما قد لا يعرفه كثيرون أن النظريات التي تضمّنها "المقدمة"، وكتابه الآخر "العبر وديوان المبتدأ والخبر"، قد صيغت داخل مغارةٍ في الجزائر عندما كان ابن خلدون في عزلةٍ شبه تامة عن العالم الخارجي لمدة 4 سنوات.
عاش ابن خلدون في القرن الرابع عشر، وقد وُلد في تونس عام 1332. اسمه الكامل عبد الرحمن بن محمد بن محمد بن خلدون أبو زيد، ولي الدين الحضرمي الإشبيلي، وهو ابن عائلةٍ أندلسية هاجرت نحو شمال إفريقيا، وتعود أصولها إلى اليمن.
ووفقاً لموقع "إسلام أون لاين" فإنّ ابن خلدون نشأ وسط عائلةٍ معروفة بالعلم والأدب. كان والده معلّمه الأول، وحفظ القرآن في وقتٍ مُبكر من طفولته. درس القراءات، وعلوم التفسير، والحديث والفقه المالكي، إضافةً إلى الأصول والتوحيد، كما تعلّم اللغة، والمنطق، والفلسفة، والعلوم الطبيعية، والرياضيات.
تتلمذ على يد مشاهير علماء عصره، الذين تركوا الأندلس باتجاه تونس. وكان محمد بن عبد المهيمن الحضرمي، إمام المحدثين والنحاة في المغرب، أكثرهم تأثيراً في فكر ابن خلدون وثقافته، إضافةً إلى محمد بن إبراهيم الآبلي، الذي أخذ عنه علوم الفلسفة، والمنطق، والطبيعة، والرياضيات.
الطاعون الجارف الذي قضى على والدي ابن خلدون
في عام 1348 ضرب الطاعون العالم، وكان حدثاً حاسماً في تاريخ الأندلس والمغرب العربي عموماً، حيث كان يموت من أهل تونس يومياً نحو ألف شخص. ويُعتبر ذلك العدد بسيطاً أمام ما كان يفعله الطاعون بالمشرق، حيث كان يقتل ما يُقارب 20 ألفاً يومياً في القاهرة مثلاً.
لم يقضِ الطاعون على الأرواح فقط، بل كان أثره واضحاً على الاقتصاد والبلاد عموماً. فقد أصاب العمران ما حلّ بالناس، كما اندثرت قرى وتحولت بعض الأحياء إلى ما يُشبه الخراب.
فبموت الكثير من الحِرفيين، انحسرت مهنٌ ووظائف صناعية كثيرة، كما أُهملت المزارع. وهو ما يفسّر اقتران الطاعون بالمجاعات وارتفاع الأسعار الجنوني.
قضى الطاعون على والدَي ابن خلدون، وترك ذلك في نفسه أثراً كبيراً وجرحاً عميقاً، ودفعه إلى أن يتنقل فيما بعد ذلك بين عدة مدن وبلدان. وقد أطلق عليه اسم "الطاعون الجارف".
ففي كتاب "3 رسائل أندلسية في الطاعون الجارف"، ينطلق الكاتب محمد حسن باقتباسٍ لابن خلدون في كتابه "المقدمة"، يتحدث فيه عن الطاعون وأثره على العمران والاقتصاد والديموغرافيا.
ويقول: "هذا إلى ما نزل بالعمران شرقاً وغرباً في منتصف هذه المائة الثامنة من الطاعون الجارف، الذي تحيف بالأمم، وذهب بأهل الجيل، وطوى كثيراً من محاسن العمران ومحاها، وجاء للدول على حين هرمها، فقلّص من ظلالها وفلّ من حدّها، وأوهن من سلطانها… فخربت الأمصار والمصانع، وخلت الديار والمنازل، وضعفت الدول والقبائل، وتبدل الساكن، وكأني بالمشرق قد نزل به مثل ما نزل بالمغرب".
بعد انحسار وباء الطاعون، عمل ابن خلدون في بلاط الحاجب أبي محمد بن تافراجين، الوصي على السلطان أبي إسحاق إبراهيم بن أبي بكر. لكنه لم يكن مرتاحاً في ظلّ كثرة الاضطرابات السياسية التي كانت تعيشها الدولة الحفصية في تونس خلال تلك الفترة، وهجرة الكثير من علمائها نحو المغرب الأقصى للعيش في ظلّ الدولة المرينية الحديثة.
وفي عام 1353، قرر ابن خلدون مغادرة تونس وتنقل بين مدنٍ مختلفة في شمال إفريقيا، قبل أن يستقر لفترةٍ قصيرة في مدينة "بسكرة" الجزائرية، حيث تزوج بإحدى سيّداتها ثم رحل إلى بلاط الدولة المرينية.
سُجن لعامين وخسر زوجته وأولاده وماله
وهناك في الدولة المرينية، عيّنه السلطان أبو عنان عضواً بمجلسه العلمي في فاس، فأُتيحت له فرصة استئناف الدراسة على يد العلماء والأدباء الذين نزحوا إلى المغرب الأقصى، من تونس والأندلس.
ولكن سرعان ما انقلبت الأحوال، حينما بلغ السلطان أبو عنان أن ابن خلدون قد اتصل بأبي عبد الله محمد الحفصي -أمير مدينة "بجاية" الجزائرية المخلوع- وأنه دبّر معه مؤامرة لاسترداد ملكه.
سُجن ابن خلدون لمدة عامين حتى وفاة السلطان أبي عنان عام 1358؛ قبل أن يُطلِق سراحه السلطان الجديد لدولة بني مرين، "أبي سالم أبي الحسن"، الذي منحه منصباً مهماً بديوانه، بحيث ولاه كتابة سرّه ومراسلة الملوك.
استمر ابن خلدون في منصبه حتى تولى السلطان تاشفين الحُكم (وهو شقيق أبي سالم)، لكنه قرر التخلي عن وظيفته في سنة 1362 والهجرة إلى غرناطة، حيث عمل في بلاط السلطان محمد بن يوسف بن الأحمر.
لكنه سرعان ما غادر الأندلس نحو مدينة بجاية في سنة 1365، لتولي منصب الحجابة لدى الأمير أبي عبد الله محمد الحفصي، الذي نجح في استرداد عرشه.
لم يهنأ ابن خلدون كثيراً في حياته بعد قدومه إلى بجاية. فقد عاد إلى الترحال مُجدداً بين فاس وغرناطة ووهران وتونس ومصر، حيث شغل مناصب عدة في الحجابة والقضاء؛ والتي كان يغادرها، في بعض الأحيان، مُرغماً بسبب عدم تفاهمه مع أمراء وسلاطين تلك الدول، أو لوقوعه ضحية وشايات كاذبة من حُسّاده.
في عام 1382، عاش ابن خلدون أزمةً كبيرة، جعلته يزهد لسنوات في الحياة الدنيا ويتخلى عن منصب قاضي القضاة في مصر. حدث ذلك عندما فقدَ زوجته وأولاده وكلّ ماله حين غرقت السفينة، التي كانت تقلّهم إلى مدينة الإسكندرية.
تطرق ابن خلدون إلى تلك الفاجعة التي ألمّت به في كتابه "تاريخ ابن خلدون"، عندما قال: "ووافق ذلك مصابي بالأهل والولد، وصلوا من المغرب في السفين، وأصابها قاصف من الريح، فغرقت. وذهب الموجود والسكن والمولود، فعظم المصاب والجزع، ورجح الزهد، واعتزمت على الخروج من المنصب".
وقد عاش ابن خلدون السنوات الأخيرة من حياته في مصر، حيث شغل منصب قاضي القضاة لفتراتٍ متقطعة، إلى أن وافته المنية في 16 مارس/آذار 1405، عن عمرٍ ناهز 76 عاماً.
ابن خلدون أسّس علم الاجتماع
درس ابن خلدون الكثير من العلوم، لكنه تخصص وتعمّق في التاريخ حتى وصل إلى تأسيس علمٍ جديد، أطلق عليه اسم علم العمران البشري، أو ما يُعرف اليوم باسم علم الاجتماع.
في كتابه "المقدمة"، يصف ابن خلدون علمه الجديد قائلاً: "يهدف إلى بيان ما يلحقه من العوارض والأحوال لذاته واحدة بعد أخرى، وهذا شأن كل علم من العلوم -وضعياً كان أم عقلياً-. وأعلم أن الكلام في هذا الغرض مستحدث الصنعة، غريب النزعة، غزير الفائدة، أعثر عليه البحث وأدى إليه الغوص".
ووفقاً لموسوعة "حروف عربي"، فلقد قاد المنهج التاريخي العلمي الذي اتبعه ابن خلدون إلى التوصل لعلم الاجتماع. ويرتكز هذا المنهج على فكرة أن كل الظواهر الاجتماعية ترتبط ببعضها، وأن لكلّ ظاهرة سبباً، وهو في الوقت نفسه سبباً للظاهرة التي تليها.
لذلك، فقد كان مفهوم العمران البشري عند ابن خلدون يشمل كل الظواهر، سواء كانت ديموغرافية، أم اجتماعية، أم سياسية، أم اقتصادية، أم ثقافية. فكتب موضحاً في المقدمة ذاتها: "هو خبر عن الاجتماع الإنساني الذي هو عمران العالم، وما يعرض لطبيعة هذا العمران من الأحوال، مثل التوحش والتأنس والعصبيات وأصناف التغلبات للبشر بعضهم على بعض، وما ينشأ عن الكسب والعلوم والصنائع وسائر ما يحدث في ذلك العمران بطبيعته من الأحوال".
أظهر ابن خلدون كذلك أثر البيئة في البشر، وهو ما يدخل حالياً في الإثنولوجيا (علم الأعراق) والأنثروبولوجيا (علم الإنسان)؛ كما تطرق إلى أنواع العمران البشري تبعاً لنمط حياة البشر وأساليبهم الإنتاجية، فقال: "إن اختلاف الأجيال في أحوالهم إنما هو باختلاف نحلتهم في المعاش".
وخصّص ابن خلدون حيزاً كبيراً في مقدمته للحديث عن الدول والمُلك والخلافة ومراتبها، وأسباب وكيفية نشأتها وسقوطها، مؤكداً أن الدعامة الأساسية للحكم تكمن في العصبية.
وربط كل الأحداث المهمة والتغييرات الجذرية التي تطرأ على العمران البدوي، أو العمران الحضري، بوجود أو فقدان العصبية. كما أنها، في رأيه، المحور الأساسي في حياة الدول والممالك.
"مقدمة ابن خلدون" كُتبت داخل مغارة في الجزائر
كتب ابن خلدون "المقدمة" الشهيرة بعد انتهائه من إنجاز كتاب "العبر وديوان المبتدأ والخبر". وقد ألّف الكتابين في مرحلةٍ حساسة من حياته، حين كان في الأربعينيات من عمره، وعايش التوترات والصراعات السياسية التي عرفتها المنطقة الإسلامية في شمال إفريقيا والشام والعراق والأندلس.
شهدت هذه الدول تفككاً وتناحراً كبيرين، وقد لاحظ المفكر الشهير عن قرب واستطاع أن يحلل العوامل التي أدّت إلى انهيار الدول؛ وذلك بحكم المناصب السياسية والإدارية والقضائية، التي شغلها في إمارات وممالك تلك البلدان.
كما ألّف الكتابين بعدما اعتزل السياسة ولجأ مع أسرته إلى أصدقائه من قبيلة بني عريف، في منطقة تيهرت – وسط غرب الجزائر. وهي القبيلة التي كانت قد نأت بنفسها عن الصراعات السياسية لتلك الفترة، فاستقبلوه في أحد قصورهم داخل "قلعة ابن سلامة".
عاش 4 سنوات في تلك القلعة، وكان خلالها يختلي بنفسه لفتراتٍ طويلة داخل مغارة سُمّيت فيما بعد بـ"خلوة ابن خلدون"، حيث تفرغ لكتابة مؤلَّفيه الاثنين في عزلة وسكينة. فأنهى تأليف "المقدمة" في غضون عام 1377، ثم نقح الكتابين بعد عودته إلى مسقط رأسه في تونس، ثم لدى انتقاله للعيش في مصر.
ولعبد الرحمن كتابٌ مهم آخر، ألفه في السنوات الأخيرة من حياته ويروي فيه سيرته الذاتية، بعنوان "التعريف بابن خلدون ورحلته غرباً وشرقاً"، وتطرق فيه لنسبه وحياته المُتقلبة بين السعادة والحزن، والتي يكتشف القارئ من خلالها الكثير من الأحداث التاريخية التي ميزت العالم الإسلامي في القرون الوسطى.
المرجع الأساسي لعلماء الاجتماع في أوروبا
يبقى كتابه "مقدمة ابن خلدون" المرجع الأساسي لعلماء الاجتماع في أوروبا والعالم الغربي منذ القرن السابع عشر.
فكانت البداية، وفقاً لموقع "أنفاس" من خلال الكتاب الذي ألفه جاكوب خوليو بعنوان "رحلات ابن خلدون" سنة 1636، والذي تُرجم فيما بعد إلى لغات عدة أبرزها: الفرنسية في عام 1658 من قِبل بيير فاتيف، واللاتينية سنة 1767 من طرف صامويل مانجر.
وقد تطرق الفرنسي سلفستر دو ساسي في بعض أعماله إلى عدة أبواب وفصول من "المقدمة"، كما ترجم المؤرخ النمساوي هامر بورشتيفال بعض كتب ابن خلدون إلى اللغة اليونانية عام 1812، ووصفه فيها بـ"مونتيسكو العرب".
ومن جهته، يرى المؤرخ الإسباني رافائيل ألتاميرا أنّ كتاب "المقدمة" قد وضع أسس نظرية الحضارة الفعلية الشاملة.
وعدّدت الموسوعة العربية "المعرفة" شهادات المؤرخين وعلماء الاجتماع والفلاسفة الغربيين الكبار عن فكر ابن خلدون، على غرار البريطاني أرنولد توينبي، الذي قال إن "مؤلف ابن خلدون هو أحد أهم المؤلفات التي أنجزها الفكر الإنساني".
كما أشار الفرنسي جورج مارسي إلى أن "كتاب ابن خلدون يمثل ظهور التاريخ كعلم، وهو أروع عنصر فيما يمكن أن يُسمّى بالمعجزة العربية".
وإذا كان عبد الرحمن هو مؤسّس علم الاجتماع، فيمكن القول أيضاً إنّ حياته تُشكل ظاهرة اجتماعية جديرة بالدراسة والتحليل.