تحت وطأة الحرب العالمية الأولى، يكاد كل شبر من كوكب الأرض يكون قد تعرض لمآسي أحد أبشع صراعات البشر التي شهدها العالم، إلا أن شبه جزيرة الهند، أو ما بات يُعرف الآن بدولة الهند وباكستان ودول شرق آسيا، كان تحت رحمة الحرب بشكل خاص.
حيث كانت الهند في ذلك الوقت مستعمَرة بريطانية، تم استغلال مواردها الطبيعية والبشرية لأقصى حد، وذلك لكي تمول مساعي الإمبراطورية في حربها الشعواء، وكان من بين ضحاياها فيلق مسلم قرر عدم إطاعة الأوامر، فكانت له قصة مأساوية باتت تُعرف باسم "تمرد سنغافورة".
لتظل الواقعة شاهداً على جرائم الإمبراطورية البريطانية الاستعمارية الخالدة في صفحات التاريخ.
تمرد سنغافورة وعصيان فيلق الهنود المسلمين
في 15 فبراير/شباط عام 1915، تمرد الجناح الأيمن من فرقة المشاة الخفيفة الخامسة للجيش الهندي البريطاني في جزيرة سنغافورة.
وعلى الرغم من أن هذا التمرد لم يؤثر على معظم العالم، فإن تداعيات الحرب التي اندلعت في باقي العالم أثرت عليه وعلى مصيره بكل تأكيد.
تمركز فوج المشاة الخفيف الخامس التابع للجيش الهندي في مدراس بسنغافورة، وقد تم إرسالهم هناك ليحلوا محل جنود مشاة يوركشاير الخفيفة البريطانية.
وبحسب تقرير بمجلة جامعة Cambridge البريطانية، كانت تتألف من المسلمين الذين كانوا بشكل رئيسي من أعراق الراجبوت والبشتون.
والبشتون هي مجموعة عرقية، عادة ما تكون أطول بنية وأفتح بشرةً، ولديهم ملامح إيرانية المظهر، بينما الراجبوت هم عرق يشبه الهنود الشماليين.
كانت الحرب العالمية الأولى آنذاك جارية بشكل رسمي، ودخلت الإمبراطورية العثمانية الحرب إلى جانب حلفائها الألمان.
وقد دعا السلطان محمد الخامس المسلمين في جميع أنحاء العالم إلى حمل السلاح ضد الإمبراطورية البريطانية وحلفائها. لذلك كان هذا مهماً؛ لأن المسلمين في جميع أنحاء العالم كانوا يعتبرون السلطان قائداً لهم، على الرغم من أن نصف مسلمي العالم كانوا يعيشون تحت الاستعمار البريطاني أو الفرنسي أو الروسي.
بعد فترة وجيزة من وصول الفوج الهندي إلى سنغافورة، تم الإعلان عن إرسالهم إلى هونغ كونغ؛ ومع ذلك تضاربت الأنباء وانتشرت شائعات مفادها أنه سيتم إرسال الفيلق لتركيا لمحاربة إخوانهم المسلمين، وضد الإمبراطورية العثمانية.
انقلاب المسلمين رفضاً لمحاربة الدولة العثمانية
بحلول اليوم الخامس عشر من فبراير/شباط عام 1915، انقلب 800 مسلم هندي من هذا الفيلق على قرارات أسيادهم الاستعماريين البريطانيين.
وبحسب موقع BBC البريطاني، تسبب العصيان في اندلاع اشتباكات، مما أسفر عن مقتل حوالي 40 ضابطاً بريطانياً والاستيلاء على ذخيرة الفوج.
نتيجة لتلك الأحداث، تُركت سنغافورة بلا حماية عملياً مع وجود معظم فيلق المتطوعين السنغافوريين في إجازة بسبب عطلة رأس السنة الصينية الجديدة، تزامناً مع هذا التوقيت. لذا تمكن المتمردون من السير عبر سنغافورة وحاصروا منزل الضابط البريطاني القائد للفوج.
فاجأ التمرد السلطات البريطانية؛ لأنه كان يوم عطلة رسمية، وكان معظم الضباط في إجازة. ومع ذلك، بدون قيادة قوية، سرعان ما فقد التمرد قوته.
إذ تعافت السلطات البريطانية من المفاجأة الأولية لتمرد سنغافورة، وتمكنت من حشد وشن هجوم مضاد مع تعزيزات من الشرطة، وفيلق من المتطوعين السنغافوريين، ورجال عسكريين من السفن البحرية اليابانية والفرنسية والروسية القريبة.
وبحسب موقع Singapore infopedia للمعرفة، انضم إلى البحارة اليابانيين مجموعة إضافية من رجال الشرطة اليابانيين الخاصين الذين حشدهم القنصل الياباني.
وعلى الرغم من انتهاء العصيان في غضون فترة قصيرة، استمر التمرد 10 أيام؛ حيث نفذت السلطات عمليات تطهير شعواء للقبض على المتمردين. فقُتل 44 من الضباط والجنود والمدنيين البريطانيين، بالإضافة إلى 3 صينيين واثنين من المدنيين الملايو، بينما على الجانب الآخر قُتل 56 جندياً هندياً.
وبعدما قُتل العشرات من المسلمين في المعركة، استسلم الكثيرون منهم في نهاية المطاف، بينما هرب الباقون إلى الغابة. وبحلول 22 فبراير/شباط، انتهى التمرد الذي عُرف لاحقاً باسم تمرد سنغافورة.
الإعدام رمياً بالرصاص لعشرات المسلمين في تمرد سنغافورة
نتيجة للعصيان والتمرد الذي خلف الكثير من القتلى من الجانبين، تم إعدام 47 متمرداً من المسلمين بعد محاكمات صورية، وذلك من قبل فرقة إعدام عامة أمام جمهور من الآلاف المحتشدين.
وقعت الإعدامات العلنية في سجن أوترام بسنغافورة، وقد حُكم كذلك على 165 آخرين بالسجن لفترات طويلة في أوترام.
ليصبح تمرد سنغافورة دليلاً على أنه في مواجهة موت محتوم أو السجن لسنوات طويلة، خاطر مئات الهنود بكل شيء هرباً من خوض حرب لم يؤمنوا بها، وكانوا سيقتلون أو يُقتلون على يد إخوانهم من المسلمين في بقاع مختلفة من العالم.
وعلى الرغم من وجود حالات تمرد أخرى، فإن ما يقرب من 1.3 مليون جندي هندي شاركوا في الحرب العالمية الأولى لصالح الإمبراطورية البريطانية الاستعمارية، ولم يتمكنوا من التنصُّل من التكليف.
كما تم استخدام الكثير منهم في حملات ضد الإمبراطورية العثمانية في عمليات تضمنت الاستيلاء على مناطق مثل فلسطين وسوريا، والتي أسقطت الكثير من الضحايا المسلمين على يد جنود مسلمين آخرين لم يتمكنوا من عصيان الأوامر أو إيجاد بديل للتورط فيما لا قبل لهم به.