في سنة 1942، كان مسار الحرب العالمية الثانية في أوروبا غير مُرضٍ للحلفاء، فقد كانت قوات المحور تشدّد الخناق على السوفييت في الشمال، وكانت قطاعاتٌ واسعةٌ من أوروبا بما فيها فرنسا تحت الاحتلال النازي.
أمام ذلك الواقع، كان لابد على الحلفاء إيجاد طريقة للتخفيف عن الجبهة الشمالية، ومنح حليفهم الاتحاد السوفييتي فرصةً لالتقاط أنفاسه، حينها نقلت بريطانيا الصراع إلى قارة أخرى، عبر استهداف قوات المحور في شمال إفريقيا.
أعطى الانتصار الباهر للبريطانيين في معركة العلمين، فسحة كبيرة للحلفاء للتفكير جيداً في نقطة ضعف قوات المحور بمنطقة شمال إفريقيا، وجعلها المنطلق لأي عملية معلنة لتحرير أوروبا من النازية.
في تلك اللحظات، كان تفكير الأمريكيين الذين لم يدخلوا الحرب في أوروبا رسمياً حتى تلك اللحظة، مُنصباً حول إيجاد خطة للإنزال في شمال أوروبا، وحسم المعركة مع الألمان هناك، لم تلقَ هذه الخطط قبولاً لدى البريطانيين، الذين شعروا أنّ الإنزال في شمال أوروبا سابقٌ لأوانه، وسيؤدي إلى كارثة على الحلفاء في هذه المرحلة من الحرب.
ومن هذا المنطلق، جاءت عملية الشعلة للإنزال في منطقة المغرب العربي بمثابة حل وسطٍ بين الخطتين الأمريكية والبريطانية.
كان غزو الحلفاء لمنطقة المغرب العربي في نوفمبر/تشرين الثاني 1942، يهدف إلى إبعاد قوات المحور عن الجبهة الشرقية، وبالتالي تخفيف الضغط على الاتحاد السوفييتي الذي تعرض لضغوط شديدة.
عملية الشعلة.. أوّل عملية عسكرية كبيرة لأمريكا في الحرب العالمية الثانية
بعد أقل من سنة من دخولها الحرب العالمية الثانية رسمياً، في أعقاب الهجوم الياباني الذي استهدف أسطولها في ميناء بيرل هاربر، كانت القوات الأمريكية على موعد مع الدخول الرسمي في الحرب داخل الأراضي الأوروبية، وذلك عبر عملية الشعلة التي اشتركت فيها القوات الأمريكية مع حليفتها البريطانية ضد قوات المحور وحلفيتهم حكومة فيشي الفرنسية في منطقة المغرب العربي.
في يوليو/تموز 1942، قرّر الأمريكيون وحلفاؤهم الإعلان عن عملية الشعلة، لإنزال قوات الحلفاء على الساحل الغربي لشمال إفريقيا.
كان الغرض من "الشعلة"، إعاقة قوات الجنرال الألماني روميل المشهور بثعلب الصحراء، وذلك بوضعه في كماشة بين القوات الأمريكية في الغرب والقوات البريطانية في الشرق.
بعد نقاش مستفيض، تم الاتفاق أخيراً على عمليات الإنزال، تحت القيادة العليا للواء الأمريكي دوايت أيزنهاور، على أن تتمّ العمليات في 8 نوفمبر/تشرين الثاني من 3 أماكن مختلفة هي الدار البيضاء، ومدينة وهران الجزائرية، إضافة إلى العاصمة الجزائر، ثمّ التحرك إلى تونس، وستشمل عمليات الإنزال البرمائي ما مجموعه حوالي 110 آلاف جندي، معظمهم من الأمريكيين.
وبحسب أماكن الإنزال قسمت قوات العملية، تكفّل الأمريكيون بالإنزال على الساحل الأطلسي للمغرب من خلال فرقة العمل الغربية، بينما تحالفت القوات البريطانية والأمريكية للإنزال بوهران والجزائر العاصمة.
قبل بداية العملية، حاولت الولايات المتحدة الأمريكية تسهيل عمليات الإنزال، من خلال مفاوضاتها مع حكومة فيشي، فقد كانت كل منطقة المغرب العربي المحتلة من قبل فرنسا لا تزال موالية لحكومة فيشي بقيادة المارشال بيتان، والتي كانت الولايات المتحدة، على عكس بريطانيا، لا تزال تحافظ معها رسمياً على العلاقات الدبلوماسية.
كان القائد العام الفرنسي في الجزائر، الجنرال ألفونس جوان، ونظيره في المغرب، الجنرال شارل أوغست نوغيس، خاضعين للقائد الأعلى لجميع قوات فيشي الأدميرال.جان فرانسوا دارلان.
حاول الدبلوماسيون الأمريكيون كسب تعاون هؤلاء الضباط مع الحلفاء في عمليات الإنزال، فقد كانت أمريكا تحاول تجنّب تعرض عملية الشعلة لمقاومة مسلحة من قبل القوات الفرنسية لكن تلك الجهود لم تكلل بالنجاح التام.
عملية الشعلة تنجح في الإنزال في المغرب والجزائر خلال 3 أيام
في حوالي منتصف ليل 8 نوفمبر/تشرين الثاني، وصلت جميع فرق العمل الثلاث إلى نقاط انطلاقها واستعدت لإرسال قواتها إلى الشاطئ.
في السر، تعجب قادة الحلفاء من حظهم، نقل أكبر أسطول برمائي في التاريخ – حوالي 670 سفينة و107 آلاف جندي في المجموع – عبر المحيط الأطلسي بدا مستحيلاً تقريباً نظراً لتعقيد عملية الشعلة وحجمها.
بدأت عمليات الإنزال الأمريكية البريطانية في الجزائر العاصمة في 8 نوفمبر/تشرين الثاني وقوبلت بمقاومة فرنسية بسيطة، بالموازاة مع ذلك قوبلت عمليات الإنزال المتزامنة بالقرب من وهران بمقاومة أشد.
تم دعم عمليات الإنزال بالجزائر، بانقلاب ضد فيشي وقع في الجزائر العاصمة في 8 نوفمبر/تشرين الثاني، وبالتالي، كان مستوى المقاومة الفرنسية على شواطئ الإنزال منخفضاً أو غير موجود.
القتال الدامي الوحيد دار في الميناء، حيث حاول جنود الجيش الأمريكي منع الفرنسيين من تدمير المنشآت وإغراق السفن، وبحلول مساء يوم 10 نوفمبر/تشرين الثاني، انتهت المقاومة الفرنسية عندما تم تسليم الميناء للقوات الأمريكية والبريطانية.
أمّا في الدار البيضاء المغربية، فقد تم إنجاز عمليات الإنزال الأمريكية دون صعوبة، لكن المقاومة تطورت عندما حاول الأمريكيون توسيع مناطق سيطرتهم، مع ذلك أبرمت السلطات الفرنسية في المغرب هدنة مع الأمريكيين بعد 3 أيام من بدء عملية الشعلة.
خلّفت عملية الشعلة مقتل ألفي ضحية، ومنذ ذلك الحين، سيقاتل الجنود الفرنسيون جنباً إلى جنب مع القوات البريطانية والأمريكية خلال الفترة المتبقية من الحرب.
ألمانيا تجتاح جنوب فرنسا رداً على عملية الشعلة
بعد يوم من نجاح عملية الشعلة في المغرب والجزائر، وفي 11 نوفمبر/تشرين الثاني 1942، قامت القوات الألمانية والإيطالية في رد فعلها على إنزال الحلفاء بالمغرب العربي، على اجتياح جنوب فرنسا، وهي المنطقة الحضرية التي كانت تخضع حتى تلك اللحظة لسلطة بيتان المباشرة.
ساعد ذلك الأمر في حثّ الجنرال شارل أوغست نوغيس القائد الفرنسي العام في المغرب والقادة الفرنسيين الآخرين في الجزائر على الموافقة على مقترحات دارلان لعمل اتفاقٍ مع الحلفاء، وبالفعل تمّ إبرام الاتفاقية في 13 نوفمبر/تشرين الثاني، وسرعان ما تمت المصادقة عليها من قبل أيزنهاور.
استغرقت عملية الشعلة في تونس عدّة أشهر
وبينما كانت عملية الشعلة تسير كما خطّط لها في الجزائر والمغرب بتكاليف قليلة، كان الأمر عكس ذلك بالنسبة لتونس، فقد قتل آلاف الجنود الأمريكيين والبريطانيين في تونس خلال محاولتهم احتلال البلد.
فبدءاً من التاسع نوفمبر/تشرين الثاني، وصلت القوات الألمانية والإيطالية بكثافة إلى تونس، حتى وصل عددها إلى حوالي 20 ألف جندي مقاتل في غضون أسبوعين اشتبكوا على مدار أشهر مع القوات البريطانية والأمريكية في تونس وليبيا.
لم تسقط تونس بسرعة في أيدي القوات البريطانية والأمريكية، على العكس من ذلك، فشل الغزو أيضاً في إبعاد أعداد كبيرة من الألمان عن الجبهة الشرقية، وهو الأساس المنطقي الاستراتيجي الرئيسي للعملية.
في 7 مايو/أيار 1943 أطاحت الفرقة السابعة للدبابات البريطانية بالعاصمة التونسية، في وقت وأطاحت القوات الأمريكية الثانية ببنزرت، الميناء الأخير المتبقي بأيدي قوات المحور.
عملية الشعلة ساهمت في تحرير أوروبا من النازية
على الرغم من أنّ عملية الشعلة شهدت فشلاً كبيراً في تونس، التي لم تسقط سوى بعد أشهر من المقاومة، لكن كان للعملية نجاحاتٌ آخرى. فقد كانت عملية الشعلة أكبر حملة أمريكية حتى تلك اللحظة في مسرح المحيط الأطلسي والبحر المتوسط، وأوّل عملية كبرى نفذت بشكل مشترك بين الولايات المتحدة والمملكة المتحدة خلال الحرب العالمية الثانية. وعلاوة على فتحها جبهة جديدة ضد قوات المحور، فقد ساهمت الإنزال العسكري الأمريكي البريطاني المشترك في المغرب العربي على رسم خارطة جديدة للحرب العالمية الثانية، فبعد نجاح العملية، نجح الحلفاء في احتلال جزيرة صقلية وغالب الأراضي الإيطالية في صيف 1943، كما أبعدت العملية الخطر المتأتي من قوات المحور على حقول النفط بالشرق الأوسط وخطوط التزويد البريطاني لآسيا وإفريقيا.
في الحقيقة، اكتسى نصر الحلفاء في المغرب العربي أهمية حاسمة في مساق الحرب العالمية الثانية، فبعد 3 سنوات من عملية الشعلة، نجحت القوات الأمريكية والبريطانية في تحرير أوروبا من النازية.