كان أبو بكر الرازي مُحباً للموسيقى والغناء في صغره، وعازفاً على العود أيضاً، كما اشتغل "صرافاً" لبعض الوقت، قبل أن يُحوّل اهتماماته نحو العلوم الطبيعية والتجريبية والطبية، ويصبح أشهر طبيبٍ في عصره، وأحد أكبر العلماء المسلمين في تاريخ البشرية.
ترك بصمته في الحضارة الغربية الحديثة بشكلٍ واضح ومثير للاهتمام؛ وقد سُمّي بـ"الرازي" نسبةً إلى مدينة "الري"، التي وُلد ونشأ ودرس فيها، والتي أصبحت حالياً جزءاً من مدينة طهران الإيرانية.
ووفقاً لموقع "مفكّرون"، وُلد أبو بكر محمد بن يحيى بن زكريا الرازي عام 865؛ وقد برع في العزف على العود، وكانت اهتماماته تتركز في تعلّم الأدب والرياضيات، إلى جانب الموسيقى.
في شبابه، اتجه إلى دراسة باقي العلوم والتعمّق فيها، مثل: الكيمياء، والفيزياء، والصيدلة، والطب، إضافةً إلى الفلك، والفلسفة.
لكنه اختار دراسة الطب في بغداد، عاصمة الدولة العباسية في ذلك العصر، لأنه كان يرى أنه علمٌ يجب أن يُدرَس في المدن المزدحمة، حيث يكثر المرضى والأطباء الأكفاء؛ كما جاء في موسوعة "عريق" العربية.
بعد إتمام دراساته الطبية في بغداد، عاد الرازي إلى مدينة "الري" بدعوةٍ من حاكمها منصور بن إسحاق، ليتولى إدارة مستشفى المدينة. وتُشير بعض المراجع إلى أن الرازي ألّف للحاكم كتابه "المنصوري في الطب"، ثم "الطب الروحاني" (وكلاهما مُتمّماً للآخر)، فيختصّ الأول بأمراض الجسم، والثاني بأمراض النفس.
أشرف على بناء وإدارة أكبر وأحدث مستشفى في زمانه
عاد أبو بكر الرازي للعيش مرةً ثانية في بغداد، ليتولى رئاسة "البيمارستان المعتضدي" الجديد، الذي أنشأه الخليفة العباسي المعتضد بالله عام 892. و"البيمارستان" كلمة من أصل فارسي، وتعني "دار الشفاء"، وغالباً ما تكون عبارة عن مستشفى كبير لعلاج المرضى وإقامتهم، ولتدريس الطب أيضاً.
أوكل الخليفة المعتضد بالله مهمة بناء البيمارستان إلى الرازي، طالباً منه أن يكون أكبر وأحدث مستشفى في العالم. ويُقال إن وراء اختيار الرازي المكان المناسب، لإقامة المستشفى، قصة مثيرة للاهتمام.
فقد لجأ إلى طريقة مُبتكرة، حين وضع قطعاً من اللحم في أنحاء مختلفة من بغداد، وانتظر 24 ساعة بعدها. وفي المكان الذي بقيَ فيه اللحم بأحسن حال، اختار الرازي بناء المستشفى، معتبراً أنه الجو الأنقى والأكثر اعتدالاً.
لا تذكر المراجع التاريخية إن كان أبو بكر الرازي قد تزوج أو ما إذا كان له أبناء، لكنها تذكر أنه كان كثير الأسفار، زاهداً نوعاً ما في الحياة وملذاتها، وشخصية متسامحة ومتواضعة إلى أقصى حدّ.
فقد كتب عنه مؤرخ التاريخ الإسلامي، الإمام شمس الدين الذهبي، في مؤلفه الشهير "سِير أعلام النبلاء"، فقال: "أبو بكر، محمد بن زكريا الرازي الطبيب، صاحب التصانيف، من أذكياء أهل زمانه. كان كثير الأسفار، وافر الحرمة، صاحب مروءة وإيثار ورأفة بالمرضى، وكان واسع المعرفة، مُكبّاً على الاشتغال، مليح التأليف".
بدوره، تحدث الرازي عن نفسه في كتابه "السيرة الفلسفية"، فقال: "ولا ظهر مني على شره في جمع المال وسرف فيه، ولا على منازعات الناس ومخاصماتهم وظلمهم، بل المعلوم مني ضدّ ذلك كله والتجافي عن كثير من حقوقي".
وتابع: "أما حالتي في مطعمي ومشربي ولهوي، فقد يعلم من يكثر مشاهدة ذلك مني أني لم أتعدَّ إلى طرف الإفراط، وكذلك في سائر أحوالي مما يشاهده هذا من ملبس أو مركوب أو خادم أو جارية".
وبحسب الإمام الذهبي، فإنّ أبو بكر الرازي عانى في آخر حياته من ضعف البصر، ثم تعرّض للعمى إلى غاية وفاته في بغداد عام 923.
أبو بكر الرازي.. الطبيب اللامع
كان الرازي عارفاً وبارعاً في شتى العلوم الدنيوية، ولكنه برز أكثر في مجال الطب وأحدث ما يُشبه الثورة فيه.
تحدثت عنه المستشرقة الألمانية، سيغريد هونكه، في كتابها الشهير باللغة الألمانية "شمس الله تسطع على الغرب: تراثنا العربي"، ولكن نسخته العربية عُنونت بـ"شمس العرب تسطع على الغرب".
هونكه وصفت الرازي بـ"أعظم أطباء الإنسانية على الإطلاق"، وقالت عنه: "لقد امتاز بمعارف طبية واسعة لم يعرفها أحد من قبله منذ أيام جالينوس، وكان في سعيٍ دائمٍ وراء المعرفة؛ عاباً منها كل ما يمكن عبه، باحثاً عنها في صفحات الكتب، وعلى أسرّة المرضى، وفي التجارب الكيميائية".
وفي هذا الإطار، فقد أُطلق على أبو بكر الرازي لقب "جالينوس العرب"، وكثيراً ما تتردد عبارة "كان الطب مُتفرقاً، فجمعه الرازي"، خلال الحديث عن إنجازات هذا العالِم الاستثنائي.
كتبه في الطب كانت المرجع الأول في أوروبا
تُشير بعض المراجع التاريخية إلى أن أبو بكر الرازي هو أول من كتب في تشخيص الأمراض، وله الكثير من الرسائل التي تتحدث عن شتى الأمراض، فقد كتب في كل فروع الطب المعروفة وقتئذ.
ووفقاً لموسوعة "المعرفة"، فقد تُرجم البعض من تلك الكتب القيّمة إلى اللغة اللاتينية، فكانت هي المرجع الرئيسي والأول في الطب بأوروبا وبكل العالم الغربي، حتى القرن السابع عشر.
ومن أشهر كتب أبو بكر الرازي "الحاوي في علم التداوي"، وهو عبارة عن موسوعة زادت مجلداتها على العشرين، تجمع طب الإغريق وغير الإغريق، مع طب العرب وطب الرازي نفسه، وما رأى في طب غيره؛ ولا يوجد اليوم من هذه الموسوعة إلا 10 مجلدات.
تُرجم هذا الكتاب إلى اللاتينية، وطُبع للمرة الأولى في مدينة بريشيا-شمال إيطاليا عام 1486؛ وهو أضخم كتاب طُبع بعد اختراع المطبعة مباشرة، ثم أعيد طبعه مرات عدة في مدينة البندقية الإيطالية، بالقرن السادس عشر.
من أشهر كتبه، بعد "الحاوي"، كتاب "الجُدري والحصبة"؛ وكان الرازي أول من وصف هذين المرضين وصفاً دقيقاً ومُميزاً بالعلاجات الصحيحة، وفرّق بينهما بشكلٍ واضح، بعد أن كان أطباء ذلك العصر لا يفرّقان بينهما.
ولأبو بكر الرازي كتابان مهمّان أيضاً في العلوم الطبية: "المنصوري في الطب"، و"الأدوية المفردة"، الذي يتضمّن وصفاً دقيقاً لتشريح أعضاء الجسم. وقد طُبع "المنصوري في الطب" للمرة الأولى في ميلانو عام 1481، وتُرجمت أجزاء منه إلى الفرنسية والألمانية.
اشتهر الرازي بنصحه الدائم لاستعمال الغذاء، وإذا لم يستفد منه المريض، يلجأ إلى الدواء. فكان يقول: "إن استطاع الحكيم أن يعالج بالأغذية من دون الأدوية، فقد وافق السعادة".
مُبتكر الخيوط الجراحية وأول من صنع مراهم الزئبق
كثيرةٌ هي إنجازات أبو بكر الرازي؛ فإلى جانب كل ما ذكرناه، يُعتبر الرازي مُبتكر الخيوط الجراحية المعروفة بـ"القصاب"، وهو أول من صنع مراهم الزئبق، كما كان من رواد البحث التجريبي في العلوم الطبية.
وبحسب "الجزيرة نت"، فإن الرازي هو أول من ميّز بين السكتة الدماغية والغيبوبة، وبين القولنج الكلوي والتهاب الزائدة الدودية، وكان أول من ذكر أن حدقة العين تتسع في الظلام وتضيق في الضوء، وأول من استعمل الأفيون كمنوّمٍ في العمليات التي تحتاج إلى تخدير.
وإلى جانب الطب، كان الرازي من رواد علم الكيمياء الحديث، الذي يعتمد على القيام بالتجارب العلمية للحصول على استنتاجات، ومن ثم على حقائق ثابتة. وقد ربط الطب بالكيمياء، فكان ينسب الشفاء بفعل الأدوية التي يصفها الطبيب، إلى التفاعلات الكيميائية التي تتم في الجسم.
ومن أهم إنجازاته أيضاً، نجاحه في تحضير زيت الزاج (حامض الكبريتيك) والكحول بتقطير المواد النشوية والسكرية المتخمرة، وكان يستعمله في الصيدلية من أجل إنتاج الأدوية المتنوعة.
ولأبو بكر الرازي عدة مؤلفات في علم الكيمياء، التي تحتوي على الكثير من مشاهداته وملاحظاته وتجاربه واستنتاجاته، ومن بينها: "سر الأسرار"، و"الإكسير"، و"الحجر الأصفر".
جدل حول حقيقة إلحاده
درس أبو بكر الرازي الفيزياء وعلم الفلك وبرع فيهما، كما درس أيضاً الفلسفة التي كانت سبباً في الجدل الكبير المُثار حول حقيقة إلحاده.
ورغم أن مؤرخي التاريخ الإسلامي القُدامى، الذين عاشوا في زمنٍ قريب من زمنه، لم يشيروا قطّ إلى خروجه عن دين الإسلام، فإنّ بعض المؤرخين من العصر الحديث -وخاصة المستشرقين منهم- تحدثوا عن إلحاده.
من جهتهم، يستند المدافعون عن إسلامه إلى بعض الكتب التي ألّفها والتي تؤكد إيمانه، على غرار "إنّ للعبد خالقاً"، و"طبقات الأبصار"، و"الطب الروحاني".
أما المتحدثون عن إلحاده، كالمستشرقة الألمانية زيغريد هونكه، فقد قالت في كتابها الشهير: "هناك كتاب يُبشر فيه الرازي بأخلاقٍ لادينية، ويدعو إلى أن يعيش الإنسان حياته بشجاعة ورجولة، من دون أن تؤثر فيه وعود بوجود جنة أو جهنم في العالم الآخر، وذلك أن العلم والعقل يشهدان على انعدام الحياة بعد الموت".
لكن، وبغض النظر عن حقيقة إلحاده من عدمها، فإنّ العالمين العربي والغربي لا يزال إلى وقتنا الحالي ممتنين لأبو بكر الرازي وإنجازاته الكبيرة في مجال الطب.
وتجدر الإشارة إلى أن جامعة برنستون الأمريكية تحتفظ بكتبه في قاعةٍ من أفخم قاعاتها، أُطلق عليها اسمه، كما علّقت مدرسة الطب في العاصمة الفرنسية باريس صورةً ملونة للرازي، إلى جانب ابن سينا وابن رشد.