يشتهر التراث الشعبي العربي بقصص الشطار والعيارين، وهم لصوص "شرفاء" فضّلوا استخدام الحيلة والدهاء والمكر لكسب رزقهم بدلاً من العمل، لكنهم مع ذلك تمتعوا بالأخلاق العربية الكريمة وكانوا في كثير من الحالات ثواراً ضد الظلم الاجتماعي والسياسي في بلدانهم. وقد كان الشطار والعيارون أبطالاً في العديد من القصص العربية التي كتبها الجاحظ والهمذاني والحريري وغيرهم، لكن هل تعلمون أن هذا النوع من الأدب وجد طريقه إلى الغرب أيضاً، وانتشر في إسبانيا وفرنسا وألمانيا وأصبح الطيفَ الأدبي الأكثر شهرة بإنجلترا في مرحلة من المراحل؟
من العربية إلى العبرية.. الشطار والعيارون في الأدب الغربي
أوّل ظهور لهذا الأدب كان في إسبانيا، وقد قام بترجمة الأعمال العربية اليهود العبرانيون إلى اللغة العبرية أولاً ثمّ نقلت إلى الإسبانية. وعُرفت باسم "البيكارسك" وهو مشتق من الكلمة الإسبانية "بيكارو" التي ردها كثير من المستشرقين ومؤرخي الأدب المقارن إلى أصل عربي، وقالوا إنّها مشتقة من كلمة "فقير" وهي الكلمة التي تصف بطل الرواية وتعني "المحتال، والصعلوك، والدجّال، والشحّاذ"، وأيضاً يمكن أن نضيف إلى هؤلاء، البخلاء.
تحكي هذه القصص عن فتيان صعاليك يجوبون الآفاق بحثاً عن متع الحياة، يعيشون حياتهم يوماً بيوم، ولا يفكرون في المستقبل. وحياة هؤلاء غير مستقرة فيوماً يعيشون في القاع ويوماً يسعفهم الحظ بالعيش بين الأثرياء. لكن في العموم تنتهي الحكاية نهاية سعيدة في الغالب وفيها عبرة وحكمة.
أول رواية ظهرت بإسبانيا في هذا السياق كانت بعنوان "لاثارييو دي تورميس"، وعلى الرغم من كون كاتبها مجهولاً فإنها طبعت مباشرة ثلاث طبعات في "برغش" و "امبيريز" و "قلعة إينارس"، وهي قلعة عبد السلام العربية نفسها. ولا بد أن نشير إلى أن "لاثارييو" قد سار على نهج "خالد بن زيد" في بخلاء الجاحظ و"أبو زيد السروجي" في المقامات، وترك وصية لابنه يدعوه فيها إلى الحذر من الناس، وعدم الثقة بهم، والاحتراس من غدر الدنيا.
لاقت الرواية رواجاً كبيراً، مما حفّز الكُتَّاب الإسبان على كتابة هذا النوع من الروايات، فظهرت بعدها روايات كثيرة تميّزت من بينها روايتان. (عثمان الفراجي) للكاتب ماتيو أليمان. والثانية (السيد بابلو النصّاب) للكاتب كيبيدو وعنوانها الكامل "السيد بابلو النصّاب، مثال المتشرّدين، ومرآة البخلاء"، وتدور حول ابن حلّاقٍ لص وأُم مشعوذة. يعمل لدى فتى ثري كخادم وتابع له، يدرسان معاً في مدرسة داخلية، ويلتحقان بجامعة "قلعة إينارس". وبعد موت أبيه شنقاً، يعود ليأخذ إرثه، ويذهب إلى مدريد. وهناك يعيش حياة لاهية مع أصدقائه الشطّار، وينتهي به الأمر في السجن. وبعد انتهاء فترة سجنه يحاول الزواج، فيفشل. فيعمل مهرّجاً في طليطلة. يشير بابلو في نهاية الرواية إلى رغبته في السفر إلى أمريكا للعمل هناك ليحسّن أوضاعه المالية.
أدب الشطار ينتقل إلى فرنسا وألمانيا
انتقل هذا النموذج إلى الأدب الفرنسي أيضاً، وكانت أول رواية في الأدب الفرنسي تستلهم حياة الشطّار هي "حياة جيل بلاس" عام 1715، لكن بعض الباحثين يقولون إنّها ترجمة لرواية إسبانية مجهولة، وليست إبداعاً فرنسياً.
وبما أنّ الرواية مجهولة فلا يمكن الاعتماد على هذا الرأي. وقد تأثر كثيرون بهذه القصص، منهم الكاتب الفرنسي "فولتير" في روايته "كانديد" عام 1759، والكاتب "ديدرو" في روايته "جاك القدري" عام 1796، وتندال في روايته "الأحمر والأسود" عام 1831.
بعد فرنسا جاء دور ألمانيا، حيث راجت فيها حركة ترجمة الروايات الإسبانية التي تناولت حياة الشطّار والمحتالين، فظهرت أول رواية ألمانية في هذا المجال للكاتب جيرمان شلايفهايم بعنوان "المغامر".
إنجلترا تتصدر في إنتاج قصص الشطار
وقد أخذت إنجلترا السبق في تلك الروايات من حيث الانتشار عالمياً، وكانت أوّل رواية تصدر في هذا المجال عام 1594، هي رواية "المسافر سيئ الحظ" للروائي توماس ناش. ثم كتب دانييل ديفو "مغامرات مول فلاندرز" عام 1722، وهي أقرب الروايات الإنجليزية لحياة الشطّار بكلّ تفاصيلها.
كتب هنري فيلدنج روايتين: "جوزيف أندروز"، و"حياة توم جونز اللقيط" عام 1749، تميّز فيلدنج عن سابقيه بإضفاء الروح الساخرة على روايته، سخِر من الفضائل المزيفة لأبطاله، والعواطف المزرية، وهو ما يذكّرنا بأسلوب الجاحظ في تناول تلك الشخصيات.
ثمّ جاء بعده الكاتب الأكثر انتشاراً، تشارلز ديكنز، فكتب ثلاث روايات هي: "أوليفر تويست"، و"الآمال الكبيرة"، و"دافيد كوبر فيلد"، روايات كان لها حظّ كبير من الانتشار والتأثير، كما كانت الصورة المثلى لمجتمع القاع في بريطانيا.
يحكي ديكنز في روايته "أوليفر تويست" -وهي ثاني رواياته- عن فتى يتيم يولد في إصلاحية، ثمّ يباع ليعمل صبيَّ حانوتي. عومل الطفل بطريقة سيئة في المكانين فهرب إلى لندن ووقع في يد عصابة تستغل الأولاد في السرقة وتمارس أعمالاً إجرامية. في النهاية يتبنى أوليفر شخص طيب يرعاه. وهذه النهاية درجت عليها قصص المقامات العربية.
موريير.. البريطاني المتأثر بقصص "ألف ليلة وليلة"
نختم برواية إنجليزية لمستشرق عاش في تركيا وإيران، وأتقن اللغة العربية والتركية، وقرأ قصص البلدين، وتأثر بكتاب "ألف ليلة وليلة". كما زار إيران في مهمة دبلوماسية وتعرَّف على عادات الشعب وتقاليده، واستمع إلى القصص الشعبي الشفاهي في المقاهي التي زارها.
وكانت شخصيته الشهيرة "حاجي بابا الأصفهاني" النموذجَ الأمثل فيما كتبه الأجانب عن الشطّار. إنّه الكاتب جيمس موريير. وقد أصدر روايته في ثلاثة مجلدات عام 1824.
وشخصية حاجي بابا نموذج متقن للنسخة العربية للشطّار والعيارين، وقد عاش الكاتب في البلاد نفسها التي تدور فيها أجواء ألف ليلة وليلة. واستفاد من معايشته للناس والبيئة، كما استفاد من قراءاته للقصص والحكايات إلى الحد الذي ظنّ معه القرّاء الأجانب أنّ تلك الرواية مترجمة عن اللغة الفارسية، وليست من تأليف موريير؛ وذلك بسبب الأسلوب الذي كُتبت به الرواية، وهو أسلوب يحذو حذو المقامات. إضافة إلى الحوادث التي جرت فيها، والشخصيات، والجوّ العام. ويؤكد موريير أنّ بطل روايته موجود فعلاً، وأنه التقاه، وروى له حكايته؛ لذا استخدم موريير صيغة المتكلم في رواية الحوادث.
النجاح المذهل للرواية جعل موريير يكتب "مغامرات حاجي بابا" بعد أن هاجر إلى لندن. لكنّ الرواية لم تنجح هذه المرة نجاح روايته الأولى بأجوائها الفارسية؛ وذلك لأن القارئ الغربي الذي أحبّ الرواية الأولى المشوقة بأجوائها الغامضة والعوالم غير المعروفة لديه، لم يهتم بأن يهاجر حاجي بابا إلى لندن، المكان الذي يعرفون كلّ شيء عنه، فليس هناك ما يجذب في مغامرته.
مع هذا تبقى هذه الرواية هي الرواية الأنموذج عن حياة الشُّطّار والعيّارين في عقر دارهم.