بينما تنقسم أوروبا اليوم بسبب الحرب الروسية، ويتضاعف الاستقطاب العالمي بين الشرق والغرب، تظلّ سويسرا وحيدة على الحياد في أوروبا، وهي السياسة التي تظلّ عليها إحدى أغنى الدول الأوروبية منذ 5 قرون، فحتى خلال الحربين العالميتين اللتين دمرتا أوروبا والعالم، بقيت سويسرا على الحياد.
حتى أنها لم تنضمّ إلى الأمم المتحدة سوى عام 2002، وليست عضواً في الاتحاد الأوروبي، ولا في حلف الشمال الأطلسي، كما أنّ المرة الوحيدة منذ 5 قرون التي تخسر فيها سويسرا حيادها، كانت خلال الحروب النابليونية، قبل أن تعود إليه عام 1815.
ويعود السر وراء هذا الحياد السويسري إلى معركة مارينيانو ضد اتحاد فرنسا وفينيسيا، الذي أراد التوسع على حساب الأراضي الإيطالية والسويسرية، فما قصة هذه المعركة؟
سويسرا الدولة التي كانت تثير الرعب في أوروبا خلال العصور الوسطى
تشكلت سويسرا عام 1291 من خلال تحالف كانتونات تحت اسم الاتحاد السويسري، وكانت هذه الكانتونات المختلفة دولاً مستقلة إلى حد كبير، لكنّها ظلت موحدة من خلال الدفاع المشترك، ومنذ تأسيس دولتهم، ظلّ السويسريون أبعد ما يكونون عن الحياد والسلام، فقد قاتل أكثر من مليون مرتزق سويسري لقرون في الجيوش الأوروبية والصليبية.
كانت سويسرا خلال العصور الوسطى أكثر دولة مصدّرة للمرتزقة في أوروبا، وكان هؤلاء المرتزقة يستدعون في حال مواجهة سويسرا لهجوم أو خطر، فلم تكن أي دولة آخرى تجرؤ على مواجهة سويسرا أو الاعتداء عليها.
مع ذلك، تمتع السويسريون بسيطرة كليّة على جزء كبير من شمال إيطاليا، بما في ذلك دوقية ميلانو، التي كانت نقطة تنافس بين الجيوش الفرنسية والسويسرية.
في العام 1499، نجح الفرنسيون في احتلال دوقية ميلانو لأوّل مرة، وقاموا بطرد لودوفيكو سفورزا، الذي كان حليفاً لسويسرا، والذي حاول استعادة دوقته عام 1500، لكنه هُزم وأُسر، وذهب إلى المنفى في فرنسا.
احتفظ الفرنسيون بدوقية ميلانو حتى عام 1512، عندما سقطت في يد السويسريين، الذين نصبوا ماسيميليانو سفورزا دوقاً عليها، وحاول الفرنسيون استعادة دوقية ميلانو عام 1513، لكنهم تعرضوا لهزيمة ثقيلة في نوفارا في 6 يونيو/حزيران 1513، وأجبروا على العودة عبر جبال الألب.
معركة مارينيانو.. حين هزمت فرنسا سويسرا وأجبرتها على السلام
مع مطلع 1515، جلس فرانسيس الأوّل على العرش الفرنسي، وكان أحد أهدافه الأولى استعادة السيطرة على دوقية ميلانو.
من أجل ذلك، قام بترتيب تحالف مع البندقية، ومع هنري الثامن، ملك إنجلترا، لمواجهة التهديدات المحتملة لحملته على دوقية ميلانو، خصوصاً من الممالك الإيطالية، بما في ذلك البابا والإمبراطور ماكسيميليان وفرديناند الثاني ملك إسبانيا ووثى فلورنسا وسويسرا، ثم سرعان ما بدأ في حشد جيشه من أجل غزو دوقية ميلانو، حسب warhistoryonline.
تكمن قوة الجيش الفرنسي حينها في مدفعيته، فقد كان يحتوي على 2500 مدفعي يشغل 60 مدفعاً ثقيلاً و200 قطعة سلاح أخف. كما قام ملك فرنسا بتجنيد 22 ألف من المرتزقة الألمان، بما في ذلك 17 ألفاً من مرتزقة لاندسكينخت.
تجمع الجنود الفرنسيون في مدينة ليون في صيف عام 1515، تحت قيادة شرطي بوربون، وقائد المشاة بيدرو نافارو والفارس الشهير السير بايارد.
رداً على ذلك، سار 35 ألفاً من جنود المشاة السويسريين في سوس وبيج نيرول التي احتلوها، وأغلقوا الطرق المعتادة للجيش الفرنسي عبر جبال الألب في ممرات مونت سينيس ومونجينيفر.
في أغسطس/آب 1515، غادرت القوة الرئيسية للجيش الفرنسي ليون متجهة إلى غرونوبل ومونت دوفين، هناك انقسم الجيش الفرنسي إلى عدة مجموعات. القسم الأكبر قيادة بيدرو نافارو قطع جنوباً.
قرر الجيش الفرنسي، بقيادة ملكه الجديد والشاب فرانسيس الأوّل، مفاجأة السويسريين من خلال القيام، بمسيرة خطيرة عبر ممر غير مستخدَم سابقاً لجبال الألب وإلى السهول المحيطة بدوقية ميلانو.
وصل الفرنسيون إلى نوفارا وبافيا وأقاموا معسكرهم في مارينيانو بالقرب من دوقية ميلانو، هناك كان السويسريون في انتظارهم.
عشية المعركة، قرر فرانسيس ترتيب العشرات من بنادقه الميدانية على طول الخطوط الأمامية في وسط تشكيلته الحربية، مع وجود سلاح الفرسان على نطاق واسع على الأجنحة.
على الجهة المقابلة، احتشد السويسريون في تشكيل خطوط مشاة كبيرة، حيث لم يكن لديهم سلاح فرسان أو مدفعية قوية، فقد كانت استراتيجيتهم هي توجيه الضربات مباشرة إلى مواقع المدفعية الفرنسية، وبقدر ما تبدو هذه الخطة خطيرة، إلاّ أنها نجحت مع الجيش السويسري في الماضي.
في صباح يوم 13 سبتمبر/أيلول 1515، بدأ الجيش السويسري في التحرك نحو الفرنسيين، لتبدأ معركة مارينيانو في منتصف بعد ظهر ذلك اليوم، ومنذ البداية فاجأ السويسريون المدفعية الفرنسية، وتمكنوا من هزيمة الطليعة الفرنسية وإلحاق خسائر فادحة بالاندسكنخت.
ثم شق السويسريون طريقهم نحو القوة الرئيسة للجيش الفرنسي في معسكره، لكن تم إيقافهم بهجوم مضاد بقيادة فرانسيس الأول، استمرت المعركة بعدها لخمس ساعات على أطراف المعسكر الفرنسي، لتنتهي الجولة الأولى من القتال في حوالي الساعة 10 مساءً بالتعادل بين الجانبين، ويترك الجسم في اليوم الجديد.
مع طلوع فجر يوم 14 سبتمبر/أيلول بدأت جولة جديدة في معركة، وبدأ السويسريون اليوم بهجوم عنيف آخر، إذ تمكن السويسريون من الوصول إلى الخطوط الفرنسية، وبدأت معركة أخرى.
نجح السويسريون في صدّ هجمات سلاح الفرسان الفرنسي، وبدأوا في تهديد خطوط الخلف الفرنسية، بعد أن أرسلت وحدة سويسرية إلى خلف خطوط الفرنسيين في محاولة ضربهم من الخلف.
معركة مارينيانو التي كانت سبباً في حياد سويسرا إلى اليوم
وفي حوالي الساعة 11 صباحاً، وصلت التعزيزات الفينيسية إلى ساحة المعركة واستعاد فرانسيس الأول المبادرة في المعركة
بعد رؤية هذه التعزيزات القوية، ليأمر قادة الجيش السويسري جنودهم بالانسحاب، بعد أن بدأت الخسائر في الارتفاع.
في اليوم التالي، دخل الفرنسيون دوقية ميلانو، التي فرّ منها السويسريون، وسُجن الدوق ماكسيميليان سفورزا قبل أن يتمّ نفيه إلى فرنسا.
كانت الخسائر البشرية في هذه المعركة كبيرة، فقد قُتل حوالي 6000 سويسري، بينما فقد الفرنسيون 5000 جندي.
ورغم أنّ المعركة لم تستمر سوى يومين، فقد كانت أطول معركة خاضتها فرنسا وأكثرها دموية حتى ذلك الوقت.
علاوة على سقوط دوقية ميلانو في يد الفرنسيين، أدت المعركة أيضاً إلى انهيار التحالف المناهض للفرنسيين الذي تم إنشاؤه في بداية حرب العصبة المقدسة عام 1510. وتصالح البابا مع لويس في ديسمبر/كانون الأوّل 1515 وصنع السلام.
في مارس/آذار 1516، شنت 5 كانتونات سويسرية هجوماً آخر لاستعادة دوقية ميلانو، لكنهم هذه المرة هزموا بسهولة.
في نوفمبر/تشرين الثاني 1516، أبرمت سويسرا سلاماً دائماً مع فرانسيس الأوّل بموجبه أعلنت سويسرا عن حيادها، ظلّ هذا الحياد والسلام ساري المفعول حتى الثورة الفرنسية، وذلك حسب historyofwar.
وعلى مر القرون، أصبح الموقف من الحياد أقوى في سويسرا، وذلك من خلال تقنينه بقوانين لمنع المواطنين السويسريين من القتال في حروب خارجية.