مع بداية الحرب العالمية الثانية، ووصول شرارتها إلى المحيط الهادئ، بدأت الإمبراطورية اليابانية سريعاً في التوسع شرق آسيا وعبر المحيط الهادئ، وبحلول نهاية ديسمبر/كانون الأوّل 1941، امتدت السيطرة اليابانية في المحيط الهادئ حتى جزيرة ويك، التي تبعد أقل من 2500 ميل من جزيرة هاواي.
أدت الاشتباكات البحرية الحاسمة في معركة بحر المرجان ومعركة ميدواي، في مايو/أيار ويونيو/حزيران 1942 على التوالي، إلى قلب الطاولة على اليابان وبداية انتكاساته.
حسب موقع iwm المتخصص في التاريخ الحربي، في أغسطس/آب من نفس العام، أطلقت الولايات المتحدة استراتيجيتها "التنقل بين الجزر" لاستعادة السيطرة في المحيط الهادئ، بدءاً بهجوم برمائي على جوادالكانال، لتستمر الهجمات الأمريكية ضاربةً حصاراً وتضييقاً على اليابانيين حتى وصلت أخيراً إلى الجزر اليابانية ذاتها عبر عملية جبل الجليد التي استهدفت من خلالها جزر ريوكيو اليابانية، وبحلول أبريل/نيسان 1945، كانت القوات الأمريكية مستعدة لشن هجوم على جزيرة أوكيناوا.
كانت معركة أوكيناوا آخر المعارك الكبرى في الحرب العالمية الثانية، وواحدة من أكثر المعارك دموية خلال تلك الحرب، ففي الأول من أبريل/نيسان عام 1945، نزل الأسطول الخامس للبحرية بقوات تقدّر حجمها بـ180 ألف جندي من قوات مشاة البحرية الأمريكية في جزيرة أوكيناوا في المحيط الهادئ لشن هجوم أخير على اليابان.
كان هذا الهجوم الكاسح جزءاً من عملية الجبل الجليدي، وهي خطة معقدة لغزو واحتلال جزر ريوكيو اليابانية، بما في ذلك جزيرة أوكيناوا التي تعدّ كبرى جزر ريوكيو، والتي تقع إلى الجنوب الغربي من اليابان، بحيث سيوفر الاستيلاء على أوكيناوا لقوات الحلفاء قاعدة جوية مهمة، يمكن من خلالها للقاذفات الأمريكية ضرب اليابان بأكمله، وإغلاق طرق لوجستية مهمة، مما يحرم الجزر الأصلية من السلع الحيوية، كما كانت مشروع مرسى متقدم لأساطيل الحلفاء.
وبالرغم من أنّ معركة أوكيناوا آلى فيها الانتصار إلى الجيش الأمريكي وحلفائه، إلّا أنّها كتبت فصلاً من فصول المقاومة اليابانية، فقد أدت استماتة المحاربين اليابانيين والطقس الممطر والقتال العنيف في البر والبحر والجو إلى سقوط عدد كبير من القتلى من كلا الجانبين، بلغ ربع مليون قتيل.
أوكيناوا بوابة أمريكا لاحتلال اليابان
في مسرح المحيط الهادئ، كانت القوات الأمريكية لا تزال تحتل بشق الأنفس جزر اليابان الرئيسية، واحدة تلو الأخرى. بعد القضاء على القوات اليابانية في معركة إيو جيما الوحشية، التي وقعت بين 19 فبراير/شباط إلى 26 مارس/آذار 1945، وضعت القوات الأمريكية أنظارها نحو جزيرة أوكيناوا المعزولة، محطتهم الأخيرة قبل الوصول إلى اليابان، والتي كانت بمثابة البوابة والمفتاح لاحتلال كامل الجزر اليابانية.
تبلغ مساحة أوكيناوا 466 ميلاً مربعاً من الغابات الكثيفة والكهوف العالية، مما جعلها موقعاً مثالياً لمعرفة موقف القيادة العليا اليابانية لحماية بلدهم من السقوط، كان الجميع يعلم بمن فيهم اليابانيون أنّ سقوط أوكيناوا يعني سقوط اليابان كذلك.
في الفترة من 24 إلى 31 مارس/آذار 1945، بدأت البحرية الأمريكية قصفاً على أوكيناوا، ومع حلول فجر الأول من أبريل/نيسان، شنّ الأسطول الخامس الأمريكي أكبر عملية قصف على الإطلاق في البحر الهادئ من أجل دعم إنزال القوات الأمريكية على سواحل جزيرة أوكيناوا.
توقعت القوات الأمريكية المشاركة في الإنزال مذبحة أسوأ من تلك التي جرت في إنزال النورماندي قبل نحو سنة، لكن الغريب أنّ عمليات الإنزال الأمريكي في أوكيناوا جرت دون مقاومة نسبياً، كون اليابانيين رفضوا القتال على الشواطئ، وبدلاً من ذلك، انسحبوا إلى مواقعهم الكهوف والتلال الصخري حيث شيّدوا أنفاقاً شديدة التحصين وأنظمة مخابئ، كانت خطة اليابانيين تتمثل في إنهاك القوات الأمريكية في معركة استنزاف.
حسب جون راي سكيتس، المؤرخ في مركز التاريخ العسكري، نجحت خطة اليابانيين نجاحاً هائلاً إذ كانت "الخسائر الأمريكية مذهلة، وهي الأكبر في حرب المحيط الهادئ"، وفق ما نقله مقال لـ وزارة الدفاع الأمريكية.
مقاومة شرسة لليابانيين في معركة أوكيناوا
على الرغم من أن القوات الأمريكية واجهت مقاومة نسبية أو معدومة عند الإنزال، إلا أنه بحلول 6 أبريل/نيسان، بدأت القوات اليابانية المتمركزة في داخل أوكيناوا دفاعاً شرساً عن الجزيرة.
وفقاً لموقع history، دافع الجيش الياباني الثاني والثلاثون، الذي يبلغ قوامه 130 ألف جندي ويقوده الجنرال ميتسورو أوشيجيما، عن جزيرة أوكيناوا. كما ضمت القوة العسكرية اليابانية عدداً غير معروف من المجندين المدنيين وحراس المنزل العزل المعروفين باسم Boeitai.
أثناء تحركهم إلى عمق جزيرة أوكيناوا، تساءلت القوات الأمريكية بدهشة: متى وأين سيظهر عدوه الياباني! في الحقيقة ما لم يكن يعرفه جنود الأسطول الخامس الأمريكي هو أن المقاتلين اليابانيين يسحبونهم إلى المكان الذي يريدونه.
إذ صدرت تعليمات للقوات اليابانية بعدم إطلاق النار على قوات الإنزال الأمريكية، والاكتفاء بمراقبتها وانتظارها حتى تدخل موقع شوري بالجزيرة.
كانت شوري منطقة وعرة في جنوب أوكيناوا، وهناك كان الجنرال أوشيجيما قد نصب مثلثاً من المواقع الدفاعية يُعرف باسم خط شوري الدفاعي.
في الشمال، تحركت القوات الأمريكية نحو شبه جزيرة موتوبو، حيث تلقت مقاومة شديدة من اليابانيين وخلفت أكثر من 1000 قتيلٍ أمريكي لكنها فازت في المعركة بسرعة نسبياً.
أما في خط شوري فكان الأمر مختلفاً جداً، فقد كان عليهم التغلب على سلسلة من التلال شديدة الدفاع ومواجهة القوات اليابانية المرابطة عليها.
استعمل اليابانيون سلاحاً فتاكاً ضد الأمريكيين وكان عبارة عن الطائرات الانتحارية التي تدعى الكاميكازي، ففي الـ4 أبريل/نيسان، أطلق اليابانيون طائرات الكاميكازي التي يقودها أمهر الطيارين اليابانيين على الأسطول الخامس، قام البعض بضرب طائراتهم في السفن الأمريكية بسرعة 500 ميل في الساعة، مما تسبب في أضرار كارثية.
حاول البحارة الأمريكيون يائسين إسقاط طائرات الكاميكازي لكنهم فشلوا فشلاً ذريعاً مما تسبب هذا السلاح خلال معركة أوكيناوا، في إغراق 36 سفينة أمريكية وإصابة 368 أخرى بأعطاب بالغة، كما قتل 4900 بحار أمريكي وجرح نفس العدد تقريباً، بينما فقد 763 طائراً أمريكياً.
في الـ7 أبريل/نيسان، أرسل اليابانيون سفينتهم الحربية "ياماتو" لشن هجوم مفاجئ على الأسطول الخامس ثم إبادة القوات الأمريكية المحاصرة بالقرب من خط شوري. لكن غواصات الحلفاء رصدت سفينة "ياماتو" ونبهت الأسطول الخامس الذي شن بعد ذلك هجوماً جوياً على السفينة وأغرقها مع معظم طاقمها.
نجح الأمريكيون أخيراً في فكّ شفرة خط شوري، ليخوضوا بعدها العديد من المعارك الشرسة بما في ذلك الاشتباكات على كاكازو ريدج، وشوجار لوف هيل، وهورسشو ريدج وهالف مون هيل.
كانت الخسائر هائلة على كلا الجانبين، في الوقت الذي استولى فيه الأمريكيون على قلعة شوري في أواخر مايو/أيّار، انسحب اليابانيون إلى الساحل الجنوبي لجزيرة أوكيناوا حيث اتخذوا موقفهم الدفاعي الأخير.
انتحار اليابانيين بدل الاستسلام في معركة أوكيناوا
وفي تلك الأثناء، ساد اعتقادٌ راسخٌ لدى المقاتلين اليابانيين بأنّ الجنود الأمريكيين لن يأخذوهم أسرى خلال معركة أوكيناوا، وأنهم سيقتلونهم على الفور إذا سقطوا في الأسر، ونتيجة لذلك بدأت عمليات انتحار واسعةٍ في صفوف القوات اليابانية.
ولتشجيع استسلامهم، بدأ الجنرال الأمريكي سيمون بوليفار بوكنر حرباً دعائية على اليابانيين في أوكيناوا، بحيث أسقط ملايين المنشورات التي تعلن أن اليابان قد خسرت الحرب.
نتيجة لذلك، استسلم حوالي 7000 جندي ياباني، لكن الكثيرين اختاروا الموت بالانتحار، قفز البعض من تلال عالية، وفجر آخرون أنفسهم بالقنابل اليدوية.
حتى إنّ الجنرال أوشيجيما ورئيس أركانه الجنرال تشو انتحروا في 22 يونيو/حزيران؛ مما أدى فعلياً إلى نهاية معركة أوكيناوا.
اعتبر الأمريكيون معركة أوكيناوا واحدة من أعظم انتصاراتهم خلال حملة المحيط الهادئ، لكن الثمن الذي دفعه الجانبان كان باهظاً للغاية.
عندما صمتت أصوات المدافع، فقد أكثر من 240 ألف شخص حياتهم في معركة أوكيناوا، التي تعتبر الآن واحدة من أكثر المعارك دموية في تاريخ البشرية.
قُتل ما يقدر بنحو 110 ألف جندي ياباني، بينما استسلم 8 آلاف جندي، وانخفض عدد السكان المدنيين في أوكيناوا إلى الربع، كما قتل 100 ألف رجل وامرأة وطفل من أوكيناوا في القتال أو انتحروا بأوامر من الجيش الياباني.
كما بلغ معدل الخسائر الأمريكية 35% من حجم قوتها البشرية العسكرية، فسقط نحو 49151 ضحية، ومن بين هؤلاء قُتل أو فقد 12520 وجرح 36631 شخصاً آخر، وعانى الفيلق الـ24 الأمريكي من أكثر الخسائر الأمريكية إذ قتل 4412 من جنوده وجرح نحو 17689، وذلك وفقاً لموسوعة الحرب العالمية الثانية.
أمريكا لا تزال تحتفظ بموقع أوكيناوا الاستراتيجي حتى الآن
بالنهاية، وضعت معركة أوكيناوا قوات الحلفاء على مسافة قريبة من اليابان، وعلى الرغم من نهاية الحرب العالمية في أوروبا بانتصار الحلفاء، لم يستسلم اليابانيون على الفور، فقد كان أكثر من مليوني جندي ياباني ينتظرون الجنود الأمريكيين الذين أنهكتهم معركة أوكيناوا عند مواصلتهم التقدم إلى اليابان.
ولكن لرغبته في إنهاء الحرب بسرعة، اختار الرئيس الأمريكي هاري ترومان إلقاء قنبلة ذرية على هيروشيما في 6 أغسطس/آب وقنبلة ذرية أخرى على ناغازاكي بعد ثلاثة أيام من ذلك.
وأمام ذلك، أعلن الإمبراطور الياباني هيروهيتو في 14 أغسطس/آب 1945، استسلام اليابان ونهاية الحرب العالمية الثانية.
وفقاً لـ الموسوعة البريطانية، احتلت القوات الأمريكية جزيرة أوكيناوا لما يقرب من 27 عاماً، على الرغم من انسحاب أمريكا من اليابان بعد توقيع معاهدة السلام في سان فرانسيسكو في 8 سبتمبر/أيلول 1951، وبتطبيق هذه المعاهدة في 28 أبريل/نيسان 1952؛ إذ لم تستعد اليابان إدارة الجزيرة حتى 15 مايو 1972.
وحتى بعد تسليم إدارة الجزيرة إلى اليابانيين، احتفظت الولايات المتحدة بقواعد عسكرية كبيرة في أوكيناوا في القرن الـ21. على الرغم من أن القواعد الأمريكية هناك برزت بشكل واضح من خلال اتفاقية الدفاع المشترك بين الولايات المتحدة واليابان، إلّا أنه كانت هناك معارضة محلية كبيرة لاستمرار وجود الآلاف من القوات الأمريكية في جزيرة أوكيناوا بعد أكثر من 77 عاماً من معركة أوكيناوا.