قليل فقط في العالم اليوم يعرف حقيقة المجازر البشعة التي ارتكبتها بلجيكا في الكونغو قبل قرون ليست ببعيدة من الزمان، في وقائع تفوق بكثير ما شهده الهولوكوست الألماني بحق اليهود والأسرى من ضحايا الحرب العالمية الثانية.
ففي القرن التاسع عشر كانت الكونغو مسرحاً لجرائم نظام استعماري رأى في الدولة السمراء كنزاً لا ينضب من المقدّرات، وعمل على استنزافها حتى بات الغالبية العظمى من الكونغوليين عبيداً في خدمة الملك الغازي.
الدولة الإفريقية قبل الاستعمار
قبل الاستعمار البلجيكي والإبادة الجماعية للكونغوليين في القرن التاسع عشر، كانت دولة الكونغو منطقة كبيرة بها ثاني أكبر غابة مطيرة في العالم.
عاش سكانها هناك لمئات السنين عندما هاجروا من نيجيريا في القرن السابع إلى القرن الثامن الميلادي. وبنى معظمهم منازلهم حول الغابة.
كان الحُكم فيها مركزياً، وأصبحت البلاد تُعرف باسم مملكة كونغو، يعمل معظم سكانها صيادين وتجاراً ومزارعين، حتى توسّعت مملكة الكونغو الشابة إقليمياً من خلال التحالفات والزيجات والشراكات.
وصل الرحالة البرتغاليون إلى مملكة كونغو عام 1482، وتحالفت الدولتان في مملكة واحدة تحولت فيها العديد من العائلات الملكية الكونغولية إلى المسيحية، بحسب صحيفة The Guardian البريطانية.
التناقض في هذا التحالف هو أن البرتغاليين، إضافة للبريطانيين، والهولنديين، والفرنسيين، استعبدوا العديد من الكونغوليين المولودين أحراراً. فمن وجهة نظر أوروبا، كان الكونغوليون السود أقل شأناً، مثل البلدان الإفريقية الأخرى. فاستخدم القادة هذا التهديد كوسيلة لإخضاع مرؤوسيهم.
في القرن التاسع عشر، حاول ملك بلجيكا ليوبولد الثاني إقناع وزرائه باستعمار مناطق معينة من إفريقيا. لكن محاولاته لم تنجح. ثم في ثمانينيات القرن التاسع عشر، قرر استخدام "الرابطة الإفريقية الدولية"، وهي منظمة إنسانية أنشأها حتى يتمكن من تنفيذ خططه.
ومع ذلك، لم تكن نوايا الملك ليوبولد إنسانية. كانت الكونغو في ذلك الوقت دولة مليئة بالموارد الخاصة التي يمكن أن توفر له إيرادات كبيرة وتكلفة منخفضة. بحجة الأغراض الإنسانية، تمكن من استعمار مملكة كونغو بشكل "قانوني".
"الكونغو الحرة" تحت الاستعمار البلجيكي
الاسم الجديد الذي أُعطي لمملكة الكونغو المستعمرة كان "دولة الكونغو الحرة". لم يستطع ليوبولد دعم تطلعاته اقتصادياً بالأموال العامة البلجيكية، لذلك استخدم خيرات مستعمرته الجديدة.
كان الكونغوليون يدفعون لليوبولد وداعميه والدولة البلجيكية لكونهم عبيدًا لهم. وهكذا تم بناء المباني في بلجيكا، مثل المتحف الملكي لإفريقيا الوسطى، من خلال العمل بالسخرة واستعباد الشعب الكونغولي.
لكن الأسوأ لم يأت بعد؛ إذ لم تكن دولة الكونغو الحرة مجرد مصدر كبير للعمالة البشرية. فقد كانت واحدة من أكثر المستعمرات الأوروبية دموية في إفريقيا، إن لم تكن الأكثر دموية في تاريخ البشر تقريباً.
ترويع ومجازر بشعة من أجل المطّاط الثمين
كانت مستعمرة "دولة الكونغو الحرة" تضاهي ضعف حجم بلجيكا بـ76 ضعفاً. وكانت تتألف إلى حد كبير من الغابات، ما جعلها عبئاً مالياً ضخماً على ليوبولد.
ولكن عندما ازدهر الطلب العالمي على المطاط، استغل ليوبولد مستعمرته الغنية. فتم إرسال العمال الكونغوليين إلى الغابة لقطع الكروم وتغليف أجسادهم بالمطاط بعد حلب الأشجار من حليبها الأبيض اللزج.
كان العمل كثيفاً وضاراً بالصحة؛ وكانت الطريقة الاقتصادية الوحيدة للتنقيب عن المطاط هي عن طريق التعبئة القسرية للمجتمع الكونغولي. فتطورت دولة الكونغو الحرة إلى مزرعة ضخمة من رقيق العمل بالسخرة.
كان الطلب على المطاط والعاج من السوق الغربية كبيراً لدرجة أنه حتى المليون شخص في هذا البلد الكبير لم يتمكنوا من توفيته. حيث نمت نباتات المطاط في الغابات، بعيداً عن المنازل.
فأُجبر الفلاحون المحليون على الذهاب إلى هناك كل يوم لجلب الحليب من الأشجار. بالإضافة إلى ذلك، لا يمكن جمع العاج إلا من صيد الأفيال، وهو أمر أكثر صعوبة.
وسرعان ما أصبح من الصعب للغاية على الكونغوليين جمع ما يكفي من الموارد بالكميات التي يريدها ملكهم الجديد. سرعان ما بدأت بلجيكا في استخدام الإرهاب وتقطيع الأطراف لزيادة الإنتاج.
حصص خيالية ومطالب لا يمكن توفيرها
إمعاناً في الجنون، تم تحديد حصص من المطاط لكي تسلمها القرى، وتم إرسال رجال الدرك لجمعها، وهي عملية دائماً ما كان يشوبها النهب والحرق العمد لمنازل الناس والاغتصاب.
وإذا فشلت قرية في تسليم حصتها، فسيتم أخذ الرهائن وإطلاق النار عليهم. للتأكد من أن الدرك لم يضيعوا الرصاص في الصيد، فقد طُلب منهم تسليم الأيادي المقطوعة للضحايا كدليل على عملهم الدؤوب.
ونتيجة لذلك، نشأت تجارة خاصة في الأيدي المقطوعة بين القرويين وأفراد الشرطة الذين لم يتمكنوا من تحقيق حصصهم.
كان الجزء الأكثر بشاعة في ذلك هو أن معظم الرجال الذين ارتكبوا الفظائع كانوا أفارقة سعوا للحصول على استحسان رؤسائهم البيض الذين يمثلون البرجوازية الأوروبية الإمبريالية.
حيث تم اختطافهم وهم أطفال، وترعرعوا ليكونوا جنود الملك أو الأفارقة الذين يتقاضون رواتب منخفضة. قاموا تقليدياً بقطع الأطراف أو اليدين أو القدمين أو حتى رؤوس "العصاة" بأوامر من ضباطهم الأوروبيين.
كانت الأجزاء المشوهة من أجساد الضحايا تؤكل في بعض الأحيان نتيجة الفقر. كما كان جَلد القرويين وحرق قرى بأكملها تكتيكاً إرهابياً سائدًاً. مات العديد من الكونغوليين من إرهاق العمل والأمراض غير المعالجة مثل الجدري ومرض النوم.
العنف الجنسي كمنهج للتهديد
كان العنف الجنسي ضد المرأة من الأمور اليومية. كانت النساء الكونغوليات غير محميات على الإطلاق، خاصة عندما لم يستطعن دفع ضرائب الدولة.
فكان يقوم الرجال البيض والحراس باختطاف الفتيات والنساء، وكان الاغتصاب والتعذيب الجنسي والاستعباد الجنسي القسري من أكثر جرائم الإبادة الجماعية تكراراً في الكونغو تحت الاستعمار البلجيكي.
ووصلت الجرائم إلى حد ارتكاب فظائع تشويه الأعضاء التناسلية والتعذيب الجنسي الجماعي.
توثيق محدود لجرائم بلجيكا الاستعمارية
ومن خلال الوثائق الدموية لجرائم بلجيكا في الكونغو، حرقت المملكة الأوروبية القرى عن بكرة أبيها بسبب عدم توفير الكميات الكافية من النسبة اليومية للمطاط الخام.
وأحياناً لم يكن يقوى الرجال على العمل لعدد الساعات المتواصلة دون راحة بسبب التعب والمرض والجوع، وبتالي كان يتم تقطيع أطرافهم لتجميع أكبر عدد ممكن من الأيدي كدليل على العمل في نهاية اليوم.
كذلك تم تخصيص غرف في كل خلية عمل في الغابات كان يتم فيها ترهيب الرجال والنساء والأطفال بالاغتصاب والحرق مقابل العمل أو حتى تسليم أطرافهم دون مقدمات.
انتهاء للكابوس المرير دون عقاب
كان للكنيسة الكاثوليكية أيضاً حصة في اقتصاد الكونغو المُحتلة. ومع ذلك، عاد العديد من المبشرين إلى ديارهم مذعورين من الفظائع التي ارتكبها الملك ليوبولد والأثرياء الأوروبيون في الكونغو.
سجل بعضهم ما رأوه وسمعوه والتقطوا صوراً للضحايا كانت بمثابة التوثيق الأساسي لما حدث هناك. حيث أخذوا شهاداتهم وكتبوا عن الفظائع التي عاصروها ونشروها في أوروبا.
نشر العديد من النشطاء الآخرين المناهضين للعبودية تجاربهم الخاصة ومصادرهم حول الإبادة الجماعية في الكونغو. ومع ذلك، لم تهتم الحكومات بقضية الكونغو إلا بعد 23 عاماً من حكم الملك ليوبولد.
انتهى الرعب الكونغولي عندما أجبر الغضب الدولي الدولة البلجيكية على السيطرة على المستعمرة في عام 1908. آنذاك تتراوح تقديرات عدد القتلى بين 2 و15 مليوناً، ما يضع ليوبولد بسهولة في قائمة العشرة الأكثر وحشية واقترافاً للمجازر الجماعية الأكبر في التاريخ.
حتى عندما توفي الملك عام 1909، تم إطلاق صيحات الاستهجان على موكب جنازة الملك في بلجيكا نفسها، بعدما تمكنت الصحف من توصيل الجرائم التي كان يقترفها نظامه في الكونغو.
بعد الغضب الدولي للفظائع والقتل الجماعي للشعب الكونغولي في عهد الملك ليوبولد الثاني، قررت بلجيكا أن تحكم الكونغو رسمياً، فأصبحت الكونغو مستعمرة بلجيكية من عام 1908 إلى عام 1960.
استقلال جريء.. وجرح غائر
في أواخر الخمسينيات من القرن الماضي، أطاحت حركة الكونغو الوطنية بالقوات البلجيكية، وأصبحت الكونغو دولة مستقلة.
ومع ذلك، حتى يومنا هذا، لا يزال العنف ظاهرة يومية في الدولة الإفريقية. فبعد عقود عديدة من القتل الجماعي والإرهاب والاستغلال والاستيلاء على موارد أراضيهم، لا يزال الكونغوليون ضحايا الاستعمار الأوروبي والتآمر الدولي.
ولا يزال تأثير عهد الملك ليوبولد والحكم البلجيكي أكبر من أن يُنسى، على الرغم من أن تاريخ الكونغو لا يزال مهملاً، ولم تتم محاسبة المسؤولين أبداً.