أصاب الأسماك والقطط أولاً! مرض “الميناماتا”.. حين تسبب الزئبق بكارثة صحية استمرت لعقود في اليابان

عربي بوست
تم النشر: 2022/11/30 الساعة 20:36 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2022/11/30 الساعة 20:38 بتوقيت غرينتش
تسبب نفايات الزئبق في ظهور وإنتشار مرض ميناماتا / ويكيبيديا

على حافة خليج ميناماتا باليابان، يصطف عدد من قرى الصيد الصغيرة على طول ساحل بحر شيرانوي، وبطبيعة الحال، كان سكان هذه القرى الذين يمتهنون صيد الأسماك، يعيشون على المأكولات البحرية.

في منتصف الخمسينيات من القرن الماضي، بدأ الصيادون في خليج ميناماتا يلاحظون أن قططهم كانت تتصرف بغرابة وتسقط ميتة في البحر، كان الاعتقاد الأوّلي لدى سكان تلك القرى أن القطط كانت تنتحر.

بعد فترة وجيزة، ظهر مرض غريب في خليج ميناماتا، أبلغ الصيادون اليابانيون عن خدرٍ في أطرافهم وشفاههم، بينما واجه البعض صعوبة في السمع أو الرؤية، وأصيب آخرون بهزات في أذرعهم وأرجلهم، وصعوبة في المشي، وحتى تلف في الدماغ.

ومثل القطط، كان بعض الناس في خليج ميناماتا يتصرفون بغرابة، ويصرخون بشدة، كما أن هناك شيئاً ما يؤثر على نظامهم العصبي.

صورة جوية لخليج ميناماتا / ويكيبيديا

سرعان ما بدا أن الوجبات الغذائية القائمة على الأسماك للقرويين والقطط هي الخيط المشترك بين أولئك الذين تظهر عليهم الأعراض، مما دفع العلماء إلى الاشتباه في أن الأسماك بقرية ميناماتا هي سبب المرض الغريب الذي ظهر.

أخيراً، في يوليو/تموز 1959، اكتشف باحثون من جامعة كوماموتو اليابانية مصدر المرض، الذي كان سببه مستويات عالية من التسمم بالزئبق، أصابت الأسماك والقطط ثم الإنسان، والذي أطلقوا عليه فيما بعدُ مرض ميناماتا.

اشتبه على الفور في وجود مصنع كبير للبتروكيماويات في ميناماتا، تديره شركة شيسو كوربوريشن، على أنّه مصدرٌ للتسمم.

ونفت شركة شيسو هذه المزاعم وواصلت تصنيعها دون تغيير طريقة إنتاجها، واصلت الشركة إنكار تورطها أو أن نفاياتها من الزئبق تسبب أي مرض، وتشير التقديرات لاحقاً إلى أن شركة شيسو اليابانية قد ألقت 82 طناً من مركبات الزئبق في خليج ميناماتا. 

بدأ الصيادون في ميناماتا الاحتجاج على شركة شيسو في عام 1959، وطالبوا الشركة بالتوقف عن إلقاء النفايات السامة وتعويضهم عن أمراضهم.

حاولت شركة شيسو بدورها عقد صفقات مع الأشخاص المتضررين من التسمم بالزئبق باستخدام وثائق قانونية تنص على أنها ستعوض الأفراد عن أمراضهم، ولكنها لن تقبل أي مسؤولية حالية أو مستقبلية عن انتشار هذا المرض، شعر كثير من الناس بأن هذه هي فرصتهم الوحيدة للحصول على أي تعويض، ووقعوا الأوراق، لتطول أزمة سكان القرية حتى الآن.

ميناماتا.. القرية اليابانية التي دفعت ثمن التلوث

تقع بلدة ميناماتا على طول الساحل الغربي لجزيرة كيوشو جنوب اليابان، ما يميزها عن قرى الصيد الأخرى التي لا تعد ولا تحصى في اليابان هو مصنع المواد الكيميائية المحلي لشركة "تشيسو كوربوريشن".

تم افتتاح المصنع في الأصل عام 1908، ولكن في عام 1951، تم تغيير العملية التي كانت تستخدم في تصنيع منتجاته الكيميائية. أدى ذلك إلى إصدار المصنع لنفايات صناعية هائلة، تم إلقاؤها في خليج ميناماتا، والتي تحتوي على ميثيل الزئبق.

استقرت هذه النسخة العضوية السامة من الزئبق في قاع البحر، وتم امتصاصها مع الوقت من قبل النباتات في الخليج وأكلها الأسماك، وهكذا شق الزئبق طريقه إلى السلسلة الغذائية التي انتهت مع أولئك الموجودين في المدينة الذين أكلوا الأسماك من خليج ميناماتا.

ميناماتا
تفشى مرض ميناماتا في خمسينيات القرن الماضي باليابان / ويكيبيديا

في أبريل/نيسان من عام 1956، تم فحص فتاة صغيرة في مستشفى مصنع شيسو مع أعراض تشمل صعوبة في المشي والتحدث والتشنجات، أدى ذلك بسرعة إلى اكتشاف مزيد من الحالات في المدينة، وسرعان ما تمّ الكشف عن ظهور مرض ميناماتا.

لقد كانت الكارثة كبيرة، فقد أحصي أكثر من 1500 حالة وفاة، وظهرت إعاقات شديدة نتيجة لإصابات في الأجهزة العصبية وتشوهات خلقية خطيرة بين الآلاف من القرويين، كما تمّ عزل قرية ميناماتا باعتبارها منطقة موبوءة، خصوصاً بعد وصول نسبة الوفيات بين المصابين إلى 37%. 

مع استمرار إغراق الزئبق في خليج ميناماتا، أنجبت النساء المسممات أطفالاً مسمومين، وُلد هؤلاء الأطفال بتشوهات شديدة بما في ذلك الأطراف العقدية والتخلف العقلي والصمم والعمى.

يعود فضل شهرة قصة مرض قرية ميناماتا على مستوى العالم، إلى المصور دبليو يوجين سميث وزوجته ألين سميث اللذين أمضيا ثلاث سنوات في ميناماتا وهما يوثقان ما كان يحدث.

نُشر عملهما لأول مرة بمجلة "لايف مغازين" في 2 يونيو/حزيران 1972، تحت عنوان "Death-Flow From a Pipe"، ولاحقاً باسم كتابهما "ميناماتا " الذي تم نشره في عام 1975، وقد تحول هذا الكتاب أيضاً إلى فيلم "ميناماتا"، الذي تم إصداره سنة 2020 من بطولة جوني ديب في دور يوجين سميث والممثل الفرنسي الياباني مينامي في دور أيلين سميث.

وعلى الرغم من أن الفيلم عبارة عن نسخة درامية من القصة الحقيقية لـGene و Aileen وMinamata، فإنه ليس القصة الوحيدة لمصور فوتوغرافي يوثق قرية "ميناماتا".

فقد سبق للمصور الياباني شيسي كوابارا القيام بذلك أيضاً، إذ قضى كوابارا ما يقرب من ستين عاماً في تصوير ميناماتا، وتوثيق حياة أولئك الذين عاشوا في القرية وآثار المياه المسمومة التي دمرت عائلاتهم.

معركة طويلة لضحايا ميناماتا لإيقاف تسميم مياه خليجهم

توقفت شركة شيسو أخيراً عن تسميم مياه خليج ميناماتا في عام 1968، وفقاً لوزارة البيئة اليابانية، اعتباراً من عام 2013، تم اعتماد ما يقرب من 3000 شخص كمرضى في ميناماتا وتوفي أكثر من 2300 منذ ذلك الحين.

يعتقد الباحثون أن المعايير التي تستخدمها الحكومة لتشخيص مرض ميناماتا صارمة للغاية، وأن أي شخص يظهر أي مستوى من الضعف الحسي يجب اعتباره ضحية، حتى الآن عوضت شركة شيسو مالياً أكثر من 10 آلاف شخص، ولا تزال تشارك في الدعاوى المتعلقة بهذه المسألة.

في أكتوبر/تشرين الأول 1982، رفع 40 مدعياً دعوى ضد الحكومة اليابانية، قائلين إنها فشلت في منع شيسو من تلويث البيئة وإنها في الواقع نظرت في الاتجاه الآخر بينما انتهك شيسو قوانين التلوث.

ميناماتا
خاضت عائلات ضحايا مرض ميناماتا معارك قضائية للتعويض / ويكيبيديا

في أبريل/نيسان 2001، قررت محكمة أوساكا العليا أن وزارة الصحة والرعاية الاجتماعية الحكومية كان ينبغي أن تبدأ في اتخاذ إجراءات تنظيمية لوقف التسمم في نهاية عام 1959، بعد أن خلص الباحثون إلى أن مرض ميناماتا ناجم عن التسمم بالزئبق. كما أمرت المحكمة شيسو بدفع 2.18 مليون دولار كتعويض للمدعين.

في 16 أكتوبر/تشرين الأول 2004، أمرت المحكمة العليا في اليابان الحكومة بدفع 71.5 مليون ين (703 آلاف دولار) كتعويضات لضحايا مرض ميناماتا.

انحنى وزير البيئة اعتذاراً للمدعين، بعد 22 عاماً، حقق المدعون هدفهم المتمثل في جعل المسؤولين عن أسوأ حالة تلوث صناعي في اليابان يدفعون ثمن إهمالهم.

ميناماتا
نصب تذكاري يخلد ضحايا مرض ميناماتا / ويكيبيديا

في عام 2010، أُمر شيسو بدفع 2.1 مليون ين وبدلات طبية شهرية لأولئك الذين لم تصادق عليهم الحكومة في الأصل على أنهم مصابون بهذه الحالة. تقدم أكثر من 65 ألف شخص بطلب للحصول على هذا التعويض، موضحين كيف أنه بعد أكثر من خمسة عقود، لا تزال آثار هذه الكارثة محسوسة.

تحميل المزيد