انتشرت في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، قناعة عنصرية مفادها أن ذوي البشرة السمراء أكثر قدرة على تحمّل الألم من أصحاب البشرة البيضاء؛ وبناءً على ذلك، استُخدم السود كفئران تجارب في العمليات الطبية، رجالاً منهم ونساء.
حتى الأطفال لم يُستثنوا من هذه التجارب؛ وعلى اعتبار أنهم كائنات ليس لديها إحساس، كالبيض، كانت هناك قناعة أخرى تؤكد أن السود أقلّ ذكاءٍ من البيض. ما جعلهم عرضةً لتجارب علمية مختلفة.
فظيعةٌ هي الممارسات التي ارتكبها الأطباء "البيض" -في زمن العبودية- على أصحاب البشرة السمراء، في إطار سعيهم إلى "فهم" هذا الاختلاف، وبمحاولةٍ منهم للتوصل إلى "علاجاتٍ" واستنتاجاتٍ علمية في هذا الإطار.
جراحات من دون تخدير، وثقب في الجماجم، إضافةً إلى حرق البشرة، وغيرها من الممارسات الشنيعة التي سنستعرضها في هذا التقرير، خلال الحديث عن أشهر الأطباء الذين استعملوا السود كفئران تجارب لنظرياتهم العلمية.
جيمس سيمز.. أبو علم جراحة النساء معتنق العنصرية
عُرف جيمس ماريون سيمز بأنه أشهر الجرّاحين الأمريكيين في القرن التاسع عشر، وقد لُقّب بـ"أبي طب النساء الحديث"، بعدما طوّر أدوات وتقنيات جراحية رائدة تتعلق بالصحة الإنجابية للمرأة.
في عام 1876، عُيّن جيمس سيمز رئيساً للجمعية الطبية الأمريكية، وفي العام 1880 أصبح رئيساً للجمعية الأمريكية لأمراض النساء، التي ساعد في تأسيسها. وقد كُرّم لاحقاً من قِبل مؤسساتٍ علمية مختلفة، عملت على صناعة تماثيل له في أنحاءٍ متعددة بالولايات المتحدة.
كان جيمس سيمز رائداً في جراحة إصلاح الناسور المثاني المهبلي، أحد مضاعفات الولادة الشائعة في القرن التاسع عشر الذي كان يسبب تمزقاً بين الرحم والمثانة؛ وهو ما يُحدث ألماً مستمراً وتبولاً لا إرادياً.
كانت تلك العملية الناجحة سبب تألق جيمس سيمز وشهرته، بعد أن كانت محاولات علاج هذه الحالة قد استعصت على العديد من الجرّاحين السابقين.
حقق جيمس سيمز شهرته في منطقة مونتغومري بولاية ألاباما، حيث استقرّ قرب حقول القطن، التي كانت تعجّ بـ"العبيد السود"، وأنشأ مستشفى صغيراً خاصاً، استقبل فيه السود واهتم بأمور تكاثرهم لصالح "الأسياد" البيض.
في حدود سنة 1845 باشر سيمز أبحاثه على الناسور المثاني المهبلي؛ ومن أجل تحقيق تقدّم في تجاربه العلمية، لم يتردد في إجراء تجارب على نساء من "العبيد السود" من ذوي الأصول الإفريقية، ولعلّ أبرزهن أنركا التي خضعت وحدها إلى حوالي ثلاثين عملية جراحية من دون تخدير.
تاريخ جيمس سيمز الطبي طويل ومُجرَّم أخلاقياً، ويقول بعض المؤرخين إنه "كان يهتم بالتجارب أكثر من اهتمامه بتوفير العلاج، وأنه تسبّب في معاناةٍ لا توصف للنساء السود، بسبب فكرته العنصرية عن السود الذين لا يشعرون بالألم".
بالبحث عن أسماء ضحاياه، من خلال سجلات جيمس سيمز الخاصة -في سيرته الذاتية "قصة حياتي" The Story of My Life– تبرز ثلاث سيدات أجرى عليهن تجاربه، وهن: لوسي، أنركا، وبيتسي.
كانت لوسي أولى ضحاياه (عمرها 18 عاماً)، بعد أن فقدت السيطرة على مثانتها إثر الولادة. أثناء العملية، كان يطلب منها أن تبقى عارية تماماً وتجلس على ركبتيها، ثم تنحني إلى الأمام حتى يستقر رأسها على أيديها.
خضعت لوسي لهذه التجربة أثناء العملية الجراحية، التي استمرت لأكثر من ساعة، والتي كانت تصرخ خلالها من الألم، كما شاهدها ما يقرب من عشرة أطباء آخرين. كتب جيمس سيمز معلقاً على هذا الأمر بقوله: "كان عذاب لوسي شديداً".
بعد العملية، تداعت صحة لوسي بسبب استخدام سيمز الإسفنج لتصريف البول بعيداً عن المثانة، مما أدى إلى إصابتها بتسمّم الدم. فكتب سيمز عن ذلك: "اعتقدت أنها ستموت، لقد استغرقت لوسي شهرين أو ثلاثة حتى تتعافى تماماً من آثار العملية".
لفترة طويلة لم تكن جراحات الناسور التي أجراها جيمس سيمز ناجحة. لكن بعد إجرائه 30 عملية جراحية لامرأة واحدة، وهي أنركا (17 عاماً)، أتقن سيمز أخيراً جراحة الناسور بعد أربع سنوات من التجارب الشنيعة على النساء السود، ثم بدأ يتدرب على النساء البيض باستخدام التخدير.
انتهاكات سيمز.. بين مؤيد ومعارض
تقول الكاتبة والخبيرة في الأخلاقيات الطبية، هارييت واشنطن، إن معتقدات جيمس سيمز العنصرية لم يمارسها خلال تجاربه على النساء السود فقط، بل أيضاً على الأطفال السود، من دون نجاحٍ يُذكر لعلاج الأمراض التي عانوا منها.
كان سيمز يعتقد أيضاً أن الأمريكيين من أصل إفريقي أقلّ ذكاء من البيض، واعتقد أن ذلك يعود إلى نمو جماجمهم بسرعة كبيرة حول أدمغتهم. لذلك، فقد كان يستخدم أداة صانع الأحذية على الأطفال السود، من أجل فصل عظامهم وثقب جماجمهم.
والأقسى من ذلك أنه حين يموت أحد الأطفال بين يديه، كان يضع اللوم على "الكسل والجهل من أمهاتهم والممرضات السود اللواتي أحضرنه". لم يعتقد أبداً أن هناك خللاً ما في أساليبه!
بسبب هذه الانتهاكات، تراجعت سمعة جيمس سيمز إلى حدٍّ كبير في منتصف القرن العشرين، وتعرض للنقد من قِبل مجموعة واسعة من الأطباء الذين أدانوه بسبب سلوكياته غير الأخلاقية.
وبهذا الصدد انتقد الكاتب دوريندا أوجانوجا -من مجلة الأخلاقيات الطبية Journal of Medical Ethics- سيمز أنه حقق الشهرة والثروة "كنتيجة للتجارب غير الأخلاقية التي أجراها على النساء السود الضعيفات".
ويشير أوجانوجا إلى محاولات جيمس سيمز لعلاج الناسور المثاني المهبلي على أنها: "مثال كلاسيكي على شرور العبودية وإساءة استخدام الأشخاص لأغراض البحث الطبي".
ويقدم أوجانوجا ونقاد آخرون صورة لسيمز كرجلٍ بارد، وحشي، وكاره للنساء، أجرى سلسلة من التجارب الجراحية غير المبررة على العبيد غير الراغبين -ولكن العاجزين عن الاعتراض.
في المقابل يقول المدافعون عن جيمس سيمز إن عصره كان يبرّر الوسيلة من أجل الوصول إلى الغاية، وإن النساء المستعبدات -المصابات بالناسور- من المرجح أنهن كن يرغبن في العلاج بشكلٍ ملحّ، لدرجة أنهن وافقن على المشاركة في تجاربه؛ لكنهن تناسين أن موافقة "مالكي العبيد" هي الشرط القانوني الوحيد لخضوعهن إلى العلاج.
تجدر الإشارة إلى أن تمثال جيمس سيمز -الموجود في سنترال بارك- كان أُزيل في 17 أبريل/نيسان 2018، كما نُقل تمثالٌ آخر في فيلادلفيا إلى أحد المخازن.
وقد استُبدلت اللوحة التابعة للتمثال بأخرى، تثقف الناس حول تاريخ الطبيب المثير للجدل والمليء بالتجارب العنصرية التي استخدمها على النساء السود، كما دُونت أسماء لوسي وأنركا وبيتسي على اللوحة الجديدة.
موسلي وبتر أطراف العبيد
وُلد بنيامين موسلي عام 1746، وعمل كطبيبٍ بين لندن وباريس، واستقرّ بعد ذلك في كينغستون الجامايكية بحدود العام 1767، حيث عمل كجرّاحٍ وأصبح طبيباً عاماً للجرّاحين. رفض موسلي بشدة -وعلناً- تطعيم مرض الجدري في سلسلة من المنشورات، وفي شهادةٍ أمام البرلمان البريطاني.
أما عن أشهر تصريحاته العنصرية، والمؤيدة لخرافة تحمل السود الألم أكثر من البيض، زعم موسلي عام 1787 أن السود يمكن أن يتحملوا العمليات الجراحية أكثر بكثير من البيض، وأضاف مصرحاً: "لقد بترتُ أرجل العديد من الزنوج، الذين أمسكوا الجزء العلوي من أطرافهم بأنفسهم".
لا تزال تلك القناعات العنصرية مستمرة إلى عصرنا هذا، إذ وجدت دراسة أجريت عام 2016 على 222 من طلاب الطب البيض، أن نصف الذين شملهم الاستطلاع يؤمنون ويؤيدون أسطورة واحدة على الأقل حول الاختلافات الطبية الجسدية بين السود والبيض.
أحد هذه الأسباب هو أن "النهايات العصبية لدى السود أقلّ حساسية من البيض"، وهو الأمر الذي يتسبب بضررٍ للمرضى السود، بدءاً من التشخيص المتأخر، إلى العلاج غير الكافي، وصولاً إلى عدم تخفيف الألم.
أظهرت الدراسات أن مغالطة وخرافة "أن السود أكثر تحملاً للألم من البيض" هو عكس الحقيقة تماماً؛ تقول الدراسات إن "الأميركيين الأفارقة، مقارنةً بالبيض غير اللاتينيين، يعانون من الألم بشكلٍ أكبر".
فعلى سبيل المثال، أفاد الأمريكيون الأفارقة بأنهم عانوا من ألمٍ أكبر في حالات مثل الإيدز، والصداع النصفي، وآلام الفك، وآلام ما بعد الجراحة، وآلام اللفافة العضلية، والذبحة الصدرية، وآلام التهاب المفاصل مقارنة بالبيض.
الطبيب هاملتون و"العبد" براون
في أربعينيات القرن التاسع عشر، أصبح جون براون -من سكان ولاية فرجينيا- ضحية تجارب طبية شديدة الوحشية. كان براون "عبداً" للسيد توماس ستيفنز، وقد بقي يعمل معه لأكثر من أربعة عشر عاماً.
أُصيب ستيفنز بمرضٍ خطير، وقد عَمِل على معالجته الدكتور هاملتون، أحد أشهر الأطباء في ذلك الوقت، والذي استطاع استعادة صحة ستيفنز بالكامل.
وللتعبير عن امتنانه، أخبر ستيفنز طبيبه أن يطلب أي شيء يريده. ولأن هاملتون كان مهتماً بمعرفة المزيد عن علاجات ضربة الشمس في ذلك الوقت، انتهز هذه الفرصة لـ"استعارة" جون براون من ستيفنز، من أجل استخدامه في التجارب المحتملة.
كان هاملتون يرأس الأكاديمية الطبية في جورجيا، وكان -من خلال تجاربه- يحاول أن يُثبت أن الاختلافات بين السود والبيض تتجاوز الثقافة، محاولاً الوصول إلى فرضيةٍ مفادها أن الأجسام السوداء تعمل بشكلٍ مختلف عن الأجسام البيضاء.
كان هاملتون يعتقد أيضاً أن للسود أعضاءً جنسية كبيرة وجماجم صغيرة، وهو ما كان يُطلِق عليه اسم "التحفز الجنسي ونقص الذكاء"، كما كان يظنّ أنهم يستطيعون تحمل درجاتٍ أعلى من الحرارة، فضلاً عن مناعتهم التي تحصّنهم ضدّ بعض الأمراض.
هذه المغالطات، وغيرها، كانت تُقدَّم على أنها حقائق عبر إضفاء الشرعية عليها من خلال نشرها في المجلات الطبية الرسمية والمعروفة وقتئذٍ.
وعلى مرّ القرون، انتشرت أكثر الأساطير الفيزيولوجية استمراراً عبر العصور، وهي أن السود لا يتأثرون بالألم ولديهم رئة ضعيفة يمكن تقويتها من خلال العمل الجاد. وقد عزّزت تلك المغالطات وجهة نظر المجتمع العنصري، القائلة بأن الأشخاص المُستعبَدين مناسبون للعملِ الإلزامي.
بناء على كلّ تلك المغالطات، أجرى هاملتون سلسلة من التجارب على براون. في تجربته الأولى، أخضع براون للحرارة الشديدة عبر حريقٍ أشعله، من أجل التسبب لبراون بضربة شمسٍ مفتعلة، ومن ثم أعطاه أنواعاً مختلفة من الأدوية، ثم شاهده وهو يغيب عن الوعي.
بعد فترة من التجارب القاسية، تضمنت اختبارات مختلفة -أبرزها تعرّض براون لدرجات حرارة لا تُطاق- خلُص هاملتون إلى أن شاي الفلفل الحار هو أفضل علاج ضد ضربة الشمس.
ولأنه كان مهتماً بالدعاية أكثر من التقدّم العلمي، سوّق هاملتون اكتشافه عن طريق بيع حبوب دواءٍ وهمية -مصنوعة من الدقيق- وطلب من مرضاه وعملائه تذويبهم في شاي الفلفل الحار.
تسبّبت اختبارات هاملتون المتعددة بتدمير براون، جسدياً وعقلياً. وبعد أن فقد قدرته على العمل في الحقل، اعتُبر في النهاية "عديم الفائدة" وغير مرغوب به، ما دفع هاملتون للعثور على أعمالٍ أخرى لبراون كالنجارة.
لكن، وعلى الرغم من المخاطر، طغى يأس براون على كل شيء، وقرّر الهروب بعدما لم يعد قادراً على تحمّل المعاناة، أو حتى تصوّرها. وقد كان محظوظاً بما يكفي للنجاة من تجارب هاملتون بشكلٍ نهائي، والهروب من العبودية في العام 1847.
سجّل براون لاحقاً تجاربه في سيرته الذاتية، التي نُشرت عام 1855 تحت عنوان "حياة العبيد في جورجيا: قصة حياة جون براون"، والتي كشفت عن مدى سوء المعاملة التي تعرّض لها "العبيد" نتيجة افتقارهم إلى الحقوق.
فكتب براون في روايته: "القليل مما قلته قد يوفر نظرة ثاقبة لنظام العبودية، لكنه مجرد زقزقة صغيرة. لقد عانيتُ بما فيه الكفاية، لكن الآخرين عانوا ويتحمّلون يومياً الكثير والكثير".