خلال فترة حياته، كان الزعيم النازي أدولف هتلر يردّد كثيراً أنّ لديه "حظ الشيطان"، فخلال سنوات حكمه نجا من أكثر من 40 محاولة اغتيال، كانت أشهرها المحاولة التي وقعت في 20 يوليو/تموز 1944، عندما تمكّن الجنرال الألماني كلاوس فون شتاوفنبرج من وضع قنبلة موقوتة في حقيبته خلال اجتماع في مقر "القائد" الذي كان يسمى "وكر الذئب"، بالقرب من راستنبرغ التي أصبحت اليوم في بولندا.
في تلك المحاولة، تصدّت طاولة الاجتماع لمعظم الانفجار، ونجا الفوهرر من الانهيار، بينما تحطمت طبلة أذن هتلر وتمزق بنطاله إلى شرائط.
لكن محاولة اغتيال أخرى كانت أكثر إثارة نجا منها هتلر بحظ الشيطان، وذلك حين انفجرت قنبلة بقاعة لشرب البيرة في مدينة ميونيخ الألمانية الجنوبية في 8 نوفمبر/تشرين الثاني 1939، قبل 13 دقيقة فقط من إنتهاء خطابٍ كان يلقيه هتلر من فوق منصة الانفجار.
كانت هذه القنبلة من عمل رجل واحد فقط، هو النجار الألماني يوهان غيورغ إلسر، الرجل الذي أراد منع اندلاع الحرب العالمية الثانية قبل أن تبدأ.
غيورغ إلسر النجار الألماني الذي كان لا يخشى الجهر بعدائه للنازية
ولد إلسر في مدينة هيرمارينجن الألمانية الصغيرة عام 1903، لم يكن يبدو على إلسر أنه كان يهتمُ بالسياسة كثيراً، على الرغم من أنّه صوّت للشيوعية، وانضم لفترة وجيزة إلى رابطة مقاتلي الجبهة الحمراء، وهم مقاتلو الشوارع الذين تحاربوا مع نظرائهم النازيين في براون تشيرتس، كما كان عضو في الطبقة العاملة الألمانية في الثلاثينيات.
في عام 1939، كانت المنظمة الوحيدة التي كان ينتمي إليها غيورغ إلسر هي نقابة عمال الأخشاب.
رغم هذه السيرة التي توحي فعلاً أنّ إلسر لم يكن يهتم للسياسة، فإنّ حياته الشخصية تنذر بالعكس، فقد كان إلسر مهتماً في الغالب بالطريقة التي كان يدير بها النازيون البلاد، وسياساتهم للحد من مستوى معيشة الألمان من الطبقة المتوسطة.
كانت ساعات العمل طويلة، بينما كانت العطل قصيرة، كما تمّ حل أو حظر النقابات العمالية والأحزاب السياسية، وتم تجميد الأجور. في غضون ذلك، تمتع أعضاء الحزب النازي بامتيازات غير متاحة لأولئك الذين رفضوا الانضمام إلى حزب هتلر.
كان إلسر يلقي باللوم على النازيين على تدهور الوضع الاقتصادي وظروفه الصعبة التي كان يعيشها، بدلاً من ربط ذلك بالشروط الصارمة لمعاهدة فرساي كما كان يردد غالبية الألمان حينها.
وجد إلسر، الذي كان يولي اهتماماً كبيراً بعمله، صعوبة متزايدة في تغطية نفقاته مع انخفاض الأجور، لذلك رأى إلسر أنّ الوضع في ألمانيا لا يمكن تغييره إلا بتصفية القيادة الحالية.
لم يكن إلسر ليؤدي التحية النازية، وعندما مرّ موكب مؤيد لهتلر عبر مدينته كونيغسبرون، أدار ظهره للموكب وبدأ في إطلاق الصفير.
ومع ذلك، لم يُخبر إلسر أحداً عن آرائه المتشددة حيال النظام النازي، وظل يعيش وحيداً رفقة عمله نجاراً في مدينته، لم يكن إلسر متزوجاً، كما كان منفصلاً عن والده، وهو ما ساعده على إخفاء موقفه من هتلر ورفاقه.
إلسر يختار ذكرى انقلاب هتلر من أجل اغتياله
كان هتلر يشتهر بوعيه الأمني الكبير، فقد كان يميل إلى إلغاء الترتيبات أو تغيير الخطط فجأة، ومن أجل الحصول على فرصة للوصول إليه، أدرك إلسر أنه بحاجة إلى معرفة أن هتلر سيكون في مكان معين في وقت معين، لم يكن هناك سوى حدثٍ واحد لا يتغيّر في برنامج هتلر السنوي.
كان الزعيم النازي أدولف هتلر يحرص في كل يوم 8 نوفمبر/تشرين الثاني من كل عام على إحياء ذكرى انقلاب Beer Hall، عام 1923، والتي وضعت حزبه على طريق الوصول إلى السلطة.
وذلك بإلقاء خطابٍ أمام الآلاف من المقاتلين النازيين القدامى في قاعة لشرب البيرة في ميونيخ، ويتبادل القصص ويستعيد ذكرياته.
وهناك وجد إلسر في المكان والزمان فرصة لتجسيد هدفه بإنهاء نظام هتلر.
في نوفمبر/تشرين الثاني 1938، وقبل 10 أشهر من غزو الألمان لبولندا ومن بعدها بداية الحرب العالمية الثانية، استقل إلسر قطاراً متوجهاً إلى مدينة ميونيخ، وهناك استكشف عن قرب احتفالات النازيين.
قام إلسر بزيارة قاعة البيرة التي عُرفت باسم Bürgerbräukeller في عام 1923، وباسم Löwenbräu بحلول عام 1939، والتي كان هتلر يلقي فيها خطابه السنوي كل سنة.
كانت قاعة Bürgerbräukeller عبارة عن ملجأ تحت الأرض، قادرة على استيعاب أكثر من 3 آلاف شخص، وقد اختارها هتلر موقعاً لخطابه المركزي بالمناسبة.
استغل إلسر حضوره الاحتفالات، ودخوله قاعة Bürgerbräukeller، حيث تفاجأ بمستوى الأمن الذي كان ضعيفاً.
بحسب smithsonianmag، كان كريستيان ويبر مسؤولاً عن الأمن داخل القاعة، لكن ويبر الذي كان يعمل حارساً لملهى ليلي في السابق، لم يكن مهتماً كثيراً باتخاذ إحتياطاتٍ أمنية صعبة من الممكن أن تحمي قائده، إذ لم يكن يخطر بباله أن أحداً من معارضي هتلر قد يحاول اغتياله!
بينما كان إلسر في قاعة البيرة، لاحظ أنّ العمود الحجري خلف منصة التي يقف عليها هتلر أثناء إلقائه خطاباته في القاعة، كان يدعم غرفة كبيرة على طول جدار واحد.
كانت حسابات إلسر تشير إلى أن قنبلة كبيرة موضوعة داخل ذلك العمود ستدمر الغرفة بأكملها وتدفن كلاً من هتلر ومساعديه، وكان السؤال هو كيفية إخفاء قنبلة فتاكة بما يكفي للقيام بالمهمة داخل العمود الحجري الصلب.
قرّر إلسر أنّ الذكرى السنوية القادمة لانقلاب Beer Hall، والتي سيحييها هتلر في قاعة Bürgerbräukeller ستكون آخر أيام الفوهرر، وأنّ أمامه عاماً كاملاً للتخطيط لتنفيذ الاغتيال.
عمل إلسر عاماً كاملاً من أجل اغتيال هتلر
كان على النجار الألماني غيورغ إلسر أن يجد طريقةً لصناعة القنبلة التي يفجّرها تحت أقدام هتلر، هنا فكّر إلسر بإيجاد عملٍ في مصنعٍ للأسلحة والمتفجرات، وبالفعل حصل على وظيفة منخفضة الأجر في مصنع أسلحة، واغتنم أي فرص أتيحت له لتهريب 110 أرطال من المتفجرات شديدة الانفجار خارج المصنع.
في المساء، عاد إلى شقته وعمل على تصميم قنبلة موقوتة متطورة.
بحسب historyextra، عاد إلسر إلى ميونيخ في أبريل/نيسان 1939، من أجل إجراء استطلاع آخر لقاعة Bürgerbräukeller، حيث قام برسم تصميمات قبو قاعة البيرة وأخذ قياسات أكثر دقة، كما قام بزيارة الحدود السويسرية لتحديد طريق للهرب، هناك نقطة في الحدود لا تخضع لدوريات المراقبة.
في شهر أغسطس/آب من ذلك العام، قام هتلر بتأجيج التوتر في أوروبا وجرّها إلى الحرب، وذلك عندما قام باجتياح بولندا، عندها انتقل إلسر مجدداً إلى ميونيخ وبدأ المرحلة النهائية لخطته لاغتيال هتلر.
استفاد إلسر من الضعف الأمني الذي يحيط بقاعة Bürgerbräukeller، وأصبح زبوناً منتظماً للقاعة، كان إلسر يتناول عشاءه كل مساء في القاعة، ويطلب بيرة وينتظر حتى موعد الإغلاق، ثم يختبئ في مخزن بالطابق العلوي ويخرج بعد الساعة 11:30 مساءً للنزول إلى القبو لإنجاز المهمة الحاسمة المتمثلة في تفريغ جزءٍ من العمود الحجري.
من خلال العمل بواسطة مصباح يدوي، قام إلسر أولاً بإجراء ثقب بدقة في بعض الكسوة الخشبية للجدار، استغرق هذا العمل وحده 3 ليال، بعد ذلك بدأ بإجراء ثقوبٍ في العمود الحجري.
كان تردد صدى صوت ضرب الحجر بالمطرقة أحد التحديات التي واجهت إلسر خلال عمله وكادت تكشف أمره، لدرجة أن إلسر اقتصر على ضربات قليلة كل بضع دقائق، كما كان يختار وقت ضرب العمود بالمطرقة ليتزامن مع مرور عربة القطار أو التنظيف التلقائي للحمامات.
كما كان عليه مسح كل قطعة من الحجر والغبار حتى لا تترك أي دليل على عمله، واستبدال اللوحة التي قطعها من الخشب بسلاسة، قبل أن يخرج من خلال مخرج جانبي في وقت مبكر من صباح اليوم التالي.
عمل إلسر ذلك طوال 35 ليلة لكي ينجح أخيراً في تهيئة مكان القنبلة. في إحدى المرات كاد يُقبض عليه، بعد أن وجده نادل القاعة داخل المبنى وأخبر مدير القاعة، عند سؤاله، أصر إلسر على أنه كان مجرد زبون مبكر، قام بطلب فنجان قهوة وشربه في الحديقة.
بعد أن أنهى مهمة تهيئة حفرة داخل العمود الحجري في قبو قاعة Bürgerbräukeller، قام إلسر بصناعة مؤقتٍ للقنبلة يعمل لمدة تصل إلى 144 ساعة، وارفقه بمؤقتٍ ثانٍ ليضمن عدم فشل المهمة.
ثمّ قام بوضع القنبلة بأكملها في صندوق مصمم ليلائم بدقة التجويف الذي حفره، لقد قلل إلسر من مخاطر اكتشاف الصندوق من خلال تبطين التجويف بالفلين، ما أدى إلى كتم الضوضاء الصادرة عن ساعة القنبلة، ثم وضع ورقة من الصفيح داخل اللوحة الخشبية لمنع أي عامل من عمال البناء يضع الزينة من دق مسمار في صندوق القنبلة دون قصد.
كشفت تحريات إلسر التي أجراها عن خطابات هتلر في قاعة Bürgerbräukeller، بأنّ هذا الأخير يبدأ حديثه دائماً في حوالي الساعة 8:30 مساءً، ويتحدث لمدة 90 دقيقة تقريباً، ثم بعدها يختلط بالحشد الحاضر.
على هذا الأساس، وضع إلسر قنبلته لتنفجر في الساعة 9:20 مساءً، أي في منتصف خطبة هتلر المعتادة.
أخيراً، بعد أن زرع القنبلة قبل 3 أيام من موعد خطاب هتلر، عاد إلسر إلى ميونيخ قبل 24 ساعة من موعد خطاب هتلر للتحقق من أن جهازه لا يزال يدق.
13 دقيقة تحول بينه وبين اغتيال هتلر
في تمام الساعة الثامنة من مساء يوم الثامن من نوفمبر/تشرين الثاني عام 1939، سار أدولف هتلر برفقة كلٍ من جوزيف جوبلز، ورودولف هيس، ومارتن بورمان، وهاينريش هيملر، بخفة إلى قاعة Bürgerbräukeller في ميونيخ، متجاوزين غابة من الأيدي مرفوعة التي تؤدي التحية النازية، عندما عزفت فرقة نشيد الحزب، "هورست ويسل سونغ"، شرع هتلر في خطابه الاعتيادي الذي استمر لأكثر من ساعة بقليل، وذلك حسب warfarehistorynetwork.
فجأة، توقف هتلر عن التحدث في الساعة 9:07 مساءً، ورفض جهود المقاتلين النازيين القدامى لإبقائه لتناول المشروب المعتاد، وفي الساعة 9:12 سارع للخروج من Bürgerbräukeller والعودة إلى محطة سكة حديد ميونيخ.
بعد 8 دقائق، عندما انفجرت قنبلة إلسر، كان الفوهرر يستقل قطاره مع مساعديه متوجهاً إلى ميونيخ، ولم يعرف هتلر خبر محاولة اغتياله حتى توقف قطار برلين السريع لفترة وجيزة في نورمبرغ.
بحلول الساعة 9:20 صباحاً، كان إلسر أيضاً بعيداً عن Bürgerbräukeller. في ذلك الصباح، استقل قطاراً متجهاً إلى الحدود السويسرية، وعندما حلّ الظلام انطلق في طريقه إلى سويسرا.
من سوء حظّه تم إغلاق الحدود، وألقت دورية ألمانية لأمن الحدود القبض عليه بينما كان يبحث عن ثغرة بين الأسلاك للهروب. كان إلسر قد حمل معه رسومات تخطيطية لتصميم قنبلته، وفتيلاً، وبطاقة عضوية في الحزب الشيوعي، وبطاقة بريدية مصورة لـ Bürgerbräukeller، على أمل إقناع السلطات السويسرية بأوراق اعتماده المعادية للنازية، لكن سقوطه في يد الألمان كشف كل شيء.
أراد أن يوقف الحرب العالمية قبل أن تبدأ
تم نقل إلسر إلى ميونيخ من أجل استجوابه، وتمّ استجوابه من قبل رئيس قوات الأمن الخاصة هاينريش هيملر شخصياً، وأبدى هتلر شخصياً اهتماماً به، بحيث طلب الاطلاع على ملفه.
كان تعقيد الخطة التي نفذها إلسر بالنسبة لهتلر، دليلاً على أن المخابرات البريطانية كانت وراءها، حتى علّق هتلر عندما قيل له إن إلسر ادعى أنه عمل بمفرده: "أي أحمق أجرى هذا التحقيق؟". بحسب ما نقله تقريرٌ لمجلة smithsonianmag.
تعرض إلسر للتعذيب في محاولة للوصول إلى فرضية هتلر، تمسك إلسر بقصته، حتى إنّه قام باستنساخ نسخة من قنبلته ليُظهر للجستابو بأنه هو من صنع القنبلة، وأكّد أنّ نيته كانت منع الحرب العالمية الثانية، وذلك عبر قتل هتلر.
تم نقل إلسر إلى معسكر اعتقال زاكسينهاوزن، وعكس الكثير من الذين حاولو اغتيال الزعيم النازي أدولف هتلر، والذين اشتركوا في مصير الإعدام، لم يعدم إلسر أو حتى يعامل معاملة سيئة هناك؛ وعلى الرغم من احتجازه في الحبس الانفرادي، فقد سُمح له بمقعد وأدوات، وبقي على قيد الحياة حتى الشهر الأخير من الحرب.
كان البعض يفترض أنّ هتلر كان يريد الإبقاء على إلسر حياً من أجل محاكمته بعد الحرب، حيث كان هتلر يفكر في توريط البريطانيين بمؤامرة اغتياله.
في أبريل/نيسان 1945، بعد انتحار هتلر واقتراب الحلفاء والسوفييت من السيطرة على ألمانيا النازية، قام هيملر، بأخذ إلسر من زنزانته وقام بإطلاق النار عليه.
بعد أسبوع، تم الإبلاغ عن الوفاة في الصحافة الألمانية، حيث ألقي باللوم فيها على غارة جوية للحلفاء.ظلت محاولة إلسر لاغتيال هتلر دون تقدير، حتى اعترفت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل سنة 2015، بإلسر كبطل للمقاومة ضد النازية، ووصفته بأنه "الشخص الذي كافح بمفرده… لمحاولة منع الحرب". وذلك حسب ما نقلته BBC.