يُعتبر المَجَري، بيلا كش (بالمجري: Béla Kiss)، واحداً من أشهر المجرمين المتسلسلين في التاريخ الحديث، ليس لأنه ارتكب سلسلة جرائم قتل، ونكّل بضحاياه فقط، بل لأنه استطاع أن ينجو من العقاب من دون أن يُعرف مصيره حتى اليوم.
ولم يكن ذكاؤه الخارق سبباً في هروبه من العدالة، أو نفوذه المالي مثلاً، أبداً.. بل إن اندلاع الحرب العالمية الأولى أجبره على التوقف عن جرائمه الوحشية، من أجل الانخراط في جيش بلاده.
وُلد بيلا كش يوم 28 يوليو/تموز 1877 في مدينة إيسزاك المجرية، التي كانت تابعة في ذلك الوقت إلى إمبراطورية النمسا والمجر. وقد عاش منذ العام 1900 في بلدة تشنكوتا، القريبة من مدينة بودابست، العاصمة الحالية للمجر.
عُرف كش في تلك الفترة على أنه "مُنجّم هاوٍ"، يمارس طقوساً غريبة، وكان بعض سكان البلدة يقصدونه بهدف معرفة مستقبلهم.
تزوّج بيلا كش مرّتين، وأنجب طفلتين: أرانكا، وألونكا. وبحسب موقع Listverse، فقد اكتشف سنة 1912 -بعد عامٍ واحد من زواجه الثاني- أنّ زوجته، التي تصغره كثيراً، كانت على علاقةٍ مع رجلٍ آخر.
اختفت الزوجة فجأة، ولم يظهر لها أي أثر، كما لم يرها سكان البلدة مجدداً. وحين كانوا يسألون كش عنها، كان يقول إنها هاجرت مع عشيقها إلى الولايات المتحدة الأمريكية، لكن الحقيقة أنه كان قد قتلهما.
وبذلك، تكون زوجته الثانية وعشيقها من أوائل ضحايا بيلا كش من سلسلة جرائم قتل ارتكبها تباعاً، ويُمكن القول إنها الأكثر بشاعة في بداية القرن الماضي.
استدرج ضحاياه عبر إعلانات الجرائد
بعد تخلّصه من زوجته، وظف بيلا كش عاملة دائمة في منزله، تُدعى "السيدة جاكوبيك"؛ ثم بدأ ينشر إعلانات مبوّبة على صفحات الجرائد المحلية، تحت اسمٍ مستعار -وهو "هوفمان"- يقول فيها إنه أرمل يعيش الوحدة ويبحث عن الزواج.
من خلال تلك الإعلانات، تمكن كش من التعرّف إلى عددٍ كبير من النساء، أغلبهن غنيات ويعشن بعيداً عن البلدة التي كان يقطن فيها.
في البداية كان يتمّ التعارف من خلال تبادل الرسائل، قبل أن يلتقي بهن وجهاً لوجه. وقيل إن المظهر الجميل والأنيق لبيلا، إضافةً إلى شخصيته الجذابة، ساعداه على كسب ثقة النساء، وأن بعضهن منحنه المال.
ولكن رواية موقع Peoplepill عن الإعلانات المبوّبة كانت مختلفة قليلاً. فقد أشار الموقع إلى أن بيلا كش كان يدّعي من خلالها أنه وكيل زواج أو مُنجّم (عرّاف)، ما جعله يتلقى الكثير من الرسائل من طرف النساء.
وأوضحت معظم المراجع أن الرجل كان يُشاهَد رفقة النسوة في شوارع البلدة، كل واحدة على انفراد، وكانت تختلف المرأة التي ترافقه من شهرٍ إلى آخر.
والحقيقة هي أن كش كان يلتقي السيدة مراراً، بعد التواصل معها عبر الرسائل، ثم يستدرجها إلى منزله حيث يخنقها -كما فعل مع زوجته وعشيقها- ويخلّل الجثة في براميل معدنية موجودة أمام منزله.
تواصلت سلسلة جرائم بيلا كش حتى العام 1914، عندما اشتكى عليه أحد الجيران لدى الشرطة المحلية، بسبب عدد البراميل المعدنية التي كان يقتنيها وينقلها إلى منزله. فقد اعتقد الجار أن كش كان يملأ تلك البراميل بالكحول، بهدف بيعها بطرق غير شرعية.
خلال استجواب بيلا كش، ادّعى أنه يخزّن البنزين في تلك البراميل تحسّباً لاندلاع حربٍ مُحتملة. فصدّقت الشرطة روايته، من دون زيارة منزله والتحقق مما كانت تحتويه.
وفي العام نفسه، اندلعت فعلاً الحرب العالمية الأولى، واستُدعي بيلا كش إلى الخدمة العسكرية. فترك منزله بأمانة السيدة جاكوبيك، مع البراميل التي كانت مليئة بالكحول- كما كان يعتقد الجار- مع فارقٍ بسيط: وهو أن كل برميل كان يحتوي على جثة من ضحاياه أيضاً.
خيوط جرائم بيلا كش بدأت تنكشف
بدأت خيوط سلسلة الجرائم، التي ارتكبها القاتل المجري، تنكشف تدريجياً انطلاقاً من يوليو/تموز من العام 1916، عندما اختفى بيلا كش وتناقضت المعلومات حول مصيره.
وبحسب موقع Murderpedia، المتخصص بقصص جرائم القتل، قيل إنّه قُتل في إحدى معارك الحرب العالمية الأولى، فيما أشارت معلومات أخرى أنه أصبح أسير حرب لدى القوات الصربية.
ومع اختفائه ومصيره المجهول، قرر صاحب المنزل الذي كان يسكنه كش تنظيفه وترتيبه، تحضيراً لإمكانية تأجيره مستقبلاً إلى شخصٍ آخر. وعندما وصل إلى المنزل، ووجد البراميل المعدنية في باحته، فتحها.
ووفقاً لموقع Mental Floss، فإن صاحب المنزل فوجئ عند فتح أحدها "بانبعاث رائحة كريهة جداً من داخلها"، وقد عَلِم من صيدلي البلدة أنّها رائحة تحلل الجثث -كما ذكر في التحقيق- فما كان منه سوى الاتصال برئيس شرطة بودابست، الدكتور شارل ناغي، لإعلامه بوجود شكوك حول وقوع جريمة قتلٍ داخل ملكيته.
ولما وصل رئيس الشرطة، مع مساعدين اثنين، إلى المنزل وجد احتجاجاً كبيراً من السيدة جاكوبيك، التي كانت قد وعدت بيلا كش الاعتناء بالبيت حتى عودته من جبهة الحرب. ولكن تلك المقاومة لم تمنع الدكتور ناغي من فتح أحد البراميل المشبوهة، ليتأكد من شكوك مالك المنزل، بعدما عثر بداخله على جثة امرأة شابة، إضافةً إلى الحبل الذي خنقها به.
بقيت تلك الجثة من دون تحلّل، بسبب الكمية الكبيرة من الكحول المُستخرج من الخشب، والذي كان موجوداً داخل البرميل الذي استُعمل كحافظ.
هل كان بيلا كش مصاص دماء؟
عند فتح البراميل الأخرى، عُثر على جثة رجلٍ و22 امرأة، ما رفع عدد ضحايا بيلا كش إلى 24 قتيلاً -مع زوجته وعشيقها- إضافةً إلى شكوكٍ حول عدد آخر من الضحايا لم يُعثر على جثثهم أبداً.
لكن الغريب أن بعض الجثث التي عُثر عليها لوحظ خلوّها من الدم، ما جعل بعض المصادر يُشير إلى أنّ كش قد يكون أيضاً "مصاص دماء" وفق ما ذكر موقع ati الأمريكي.
أثار هذا الاكتشاف بحثاً محموماً عن كش، وقد كان ذلك أمراً بغاية الصعوبة في ذلك الوقت، بسبب فوضى الحرب العالمية. فأصدر الشرطة أمراً للجيش باعتقاله على الفور، لكن اسم بيلا كش كان شائعاً جداً وقتئذٍ، ما صعّب عملية العثور عليه.
في وقتٍ لاحق من العام 2015، عُثر على كش في مستشفى صربي خلال تعافيه من إصاباتٍ في جسده. ولكن بحلول الوقت الذي وصلت فيه الشرطة، كان قد غادر كش المستشفى ووضع جندياً ميتاً مكانه في سريره.
وبالموازاة مع ذلك، ألقى المحقق ناغي القبض على السيدة جاكوبيك لاشتباهه في أن تكون لها علاقة مع جرائم القتل، خاصة أن بيلا كش ترك لها مبلغاً كبيراً من المال في الوصية، التي وُجدت داخل منزله.
لكن السيدة جاكوبيك نفت علمها بالجرائم، وأخبرت رئيس الشرطة أن هناك غرفة كان كش قد أخبرها بعدم الدخول إليها أبداً. فعُثر بداخلها على كتبٍ كثيرة تتعلق معظمها بالسموم وطرق الخنق، إضافة إلى مكتبٍ يحتوي على ألبوم صور وعدد كبير من الرسائل، هي عبارة عن مراسلات بيلا كش مع 74 امرأة.
شوهد في نيويورك للمرة الأخيرة
انتهت تحقيقات شرطة بودابست إلى أنّ كش هو مرتكب جرائم القتل الـ24؛ كما انتهت الحرب العالمية الأولى في العام 1918، بهزيمة إمبراطورية النمسا والمجر على يد قوات الحلفاء، وانفصلت بعدها المجر عن النمسا.
لكن بيلا كش لم يعد إلى موطنه أبداً، ولم يُعرف عنه ما إذا كان قد لقيَ حتفه خلال الحرب أم لا، أو إذا كان قد تمكّن من الهرب.
في السنوات اللاحقة، كثرت التقارير عن مشاهدة كش؛ ادّعى بعض الناس أنهم رأوه في رومانيا وتركيا، خلال القتال مع الفيلق الأجنبي الفرنسي، وتوجد مزاعم أخرى تؤكد أنه شوهد في مدينة نيويورك عام 1932 وكان يعمل حارساً لأحد المباني.
كانت هذه المرة الأخيرة التي شوهد فيها بيلا كش، وكانت هذه المرة الأخيرة التي تلاحقه الشرطة. فبعدما ذهب بعض أفرادها إلى العنوان الذي وصلهم، أخبرهم سكان المبنى أن الحارس اختفى من دون أثر.