لسنا نبالغ لو قلنا إن ابن سينا هو فعلاً "أبو الطب" الحديث؛ فهو أحد العلماء النوابغ، الذين أسهموا بشكلٍ كبير في الحضارة العربية والإسلامية، وأثروا لاحقاً -من خلال أبحاثهم وأفكارهم- في النهضة الأوروبية الحديثة وحضارتها.
حظيَ ابن سينا باهتمام واحترام الباحثين والعلماء والأمراء في الغرب، على مرّ العصور والأزمان، بسبب اكتشافاته العلمية وإنجازاته المتعددة التي استفاد منها العالم منذ أكثر من ألف عام.
لُقّب أيضاً بـ"أمير الأطباء"، لإسهاماته في الطب، إضافةً إلى "أرسطو الإسلام". وفي هذا الإطار، قال عنه المؤرخ البلجيكي جورج ساتون: "ابن سينا ظاهرة فكرية عظيمة، ربما لا نجد من يعادله في ذكائه ونتاجه الفكري، الذي يُعد مرجعاً في الفلسفة بالقرون الوسطى".
ألّف ابن سينا نحو 450 كتاباً، لم يصل منها إلى عصرنا الحالي سوى 240 كتاباً، أغلبها في الطب والفلسفة، إلى جانب علوم أخرى كالفيزياء، والرياضيات، والفلك، والجيولوجيا.
والده كان أحد مشايخ الطائفة الإسماعيلية
اسمه الكامل أبو علي الحسين بن عبد الله بن الحسن بن علي بن سينا؛ وُلد العام 980 في قرية "أفشنة"، قرب مدينة بخارى التابعة حالياً لدولة أوزبكستان بآسيا الوسطى. وقد توفي سنة 1037، في مدينة هامادان (إيران حالياً).
تلقى تعليمه الأول على يد والده الذي كان، وفقاً لموسوعة "المعرفة" العربية، أحد مشايخ الطائفة الإسماعيلية؛ وهي طائفة من المسلمين ترتكز أفكارها على نمط من الفلسفة الأفلاطونية الجديدة (المُحدثة).
ورغم أنه لم يتبع أبداً معتقدات والده، فإنه استفاد كثيراً من الأحاديث والمناظرات التي كانت تُعقد في دارة والده، والتي ساهمت في تكوين شخصيته الفلسفية إلى حدٍّ كبير.
كان الطفل ابن سينا سريع الحفظ والاستيعاب، فحفظ القرآن في السنة العاشرة من عمره. كما حفظ، في تلك السن المبكرة، قصائد شعرية باللغتين العربية والفارسية.
ووفقاً لموقع "مفكرون"، فقد درس الشريعة الإسلامية والميتافيزيقيا والمنطق، إضافةً إلى الرياضيات والعلوم الطبيعية -وأتقنها- قبل بلوغه السادسة عشرة. فقد بدأ بدراسة العلوم الطبية عندما كان في الثالثة عشرة، وأصبح طبيباً ذائع الصيت في مدينة بخارى -وما حولها- في الثامنة عشرة، بعدما عالج الأمير نوح بن منصور وشفاه، عندما عجز أشهر الأطباء عن ذلك.
علاجه للأمير نوح بن منصور شكل منعطفاً حاسماً في حياته المهنية والفكرية، لأن الأمير أحد أبناء الأسرة الحاكمة في عهد الدولة السامانية في بلاد فارس. فقد سمحت له الأسرة باستخدام مكتبتها الخاصة، أغنى مكتبة في ذلك العصر، فاستفاد كثيراً من كافة الكتب والمراجع العلمية فيها.
رحل ابن سينا إلى مدينة جرجان، لما كان يبلغ 20 سنة، بعد وفاة والده. وبدأ في تأليف كتابه الشهير "القانون في الطب" خلال إقامته الطويلة بتلك المدينة، التي غادرها فيما بعد إلى همدان.
ازدادت شهرته في همدان كعالمٍ كبير في شتى المجالات، لدرجةٍ أصبح فيها طبيباً خاصاً للأمير شمس الدين البويهي -الملقب بـ"شمس الدولة"- بعدما نجح في علاجه من ألمٍ حاد لازمه لفترة.
لم يستقر ابن سينا طويلاً في مدينة همدان؛ فقد عاش الكثير من الصعاب بعد وفاة الأمير شمس الدين سنة 1022، بسبب خلافه مع الأمير الجديد، وأُدخل السجن قبل أن ينجح في الهرب -رفقة جماعة من أعوانه- إلى مدينة أصفهان.
هناك، حظي برعاية أميرها علاء الدولة وعاش قرابة الـ14 سنة، أنهى خلالها تأليف كتاب "القانون في الطب"، كما أنهى أيضاً مؤلفه الشهير الآخر "كتاب الشفاء".
"القانون في الطب".. المرجع العلمي الأول في أوروبا
شهرة ابن سينا الأساسية انطلقت من مجال الطب. وقد حظي كتابه "القانون في الطب" شهرة واسعة في العالم الإسلامي والأوروبي أيضاً، ويُعتبر أكثر الكتب الطبيّة تأثيراً على العالم بأسره.
ويُمكن القول إنه موسوعة طبية شاملة، تضمّ مليون كلمة تُلخص الطب العربي والإسلامي، كما يحتوي على ملاحظات شخصية لابن سينا. ويُقسم الكتاب، المعروف في الغرب باسم Qānûn، إلى 5 أجزاء، تشمل العلاجات الطبية وتحتوي على 760 نوعاً من الأدوية.
ولا يقتصر محتوى الكتاب على المعلومات الطبية، بل يتضمن أيضاً دراسات نفسية لعلوم مختلفة، على غرار علم نفس النمو وعلم النفس الفسيولوجي. وكان بمثابة مفتاح لباب الطب النفسي الجسدي، استخدمه العلماء من بعده، مثلما جاء في كتاب "الفكر التربوي عند ابن سينا" للدكتور محمود عبد اللطيف.
وقد تُرجم كتاب "قانون الطب" إلى اللغة اللاتينية في القرن الثاني عشر، من طرف جيرارد أوف كريمونا، وطُبع نحو 15 مرة في أوروبا، ما بين عامي 1473 و1500، ثم أعيد طبعه نحو 20 مرة في القرن السادس عشر.
واستمر تدريس الكتاب في أوروبا، خصوصاً داخل جامعات إيطاليا وفرنسا وبلجيكا، من القرن الثاني عشر حتى أواسط القرن السابع عشر، ظلّ خلالها المرجع العلمي الأول.
وإلى جانب براعته في العلوم الطبية، فقد كان ابن سينا فيلسوفاً كبيراً؛ حتى أنّ الكاتب والمفكر المصري المعروف محمود العقاد اعتبر أنّ أبو علي الحسين كان يفضل الفلسفة والرياضيات على الطب.
جاء في كتاب "ابن سينا" للعقاد: "الفلسفة والرياضيات كانت عند الشيخ الرئيس (يقصد ابن سينا) بالمنزلة الأولى التي تتقدم على الطب والعلوم الطبيعية، وهو ترتيب موافق لرأيه في تقديم الإلهيات والمعارف المجردة على المعارف النفعية أو الملتبسة بالأجسام".
وأضاف العقاد "إلّا أنّ المسألة على ما يظهر مسألة استعداد لا مسألة رأي في ترتيب العلوم، فهو يفضل الفلسفة والرياضيات؛ لأنه يشعر في دراستها بكل قواه، ويستغرق بها جهد ملكاته، فيلذ له مراسها ويستمتع منها برياضة ذهنية لا يستمتع بها من غيرها، ويشتغل بالطب فلا يستغرق جهده كله فيه، لأنه يفرغ له جانب الملاحظة وجانب الذاكرة من تفكيره، ويستسهله من أجل ذلك، وليس هو بالسهل على سواه".
"كتاب الشفاء"
يعتبر "كتاب الشفاء" ثاني أشهر مؤلف لابن سينا بعد "القانون في الطب"، وتحدث فيه عن الطب والرياضيات والفيزياء مع تخصيص جزء كبير للتعبير عن نظرته الفلسفية للحياة.
تُرجم الكتاب هو الآخر للغة اللاتينية تحت عنوان Sufficientia، ودرسه كبار الفلاسفة الأوروبيين، قبل أن يركزوا فيما بعد على فكر الفيلسوف المسلم الآخر، ابن رشد.
وقد وصف المستشرق والفيلسوف البلجيكي حول جانسينس، ابن سينا بـ"أحد كبار فلاسفة الإسلام"، وخصّص له كتاباً صدر سنة 2006 بعنوان Ibn Sina and his Influence on the Arabic and Latin World.
قال جانسينس في كتابه: "تقع فلسفة ابن سينا على مفترق الطرق، بين الفكر الشرقي والفكر الغربي. فهو كمسلم كان يؤمن بالعقائد الأساسية التي جاء بها النبي محمد والقرآن الكريم. وهو كفيلسوف كان مطلعاً بشكلٍ وثيقٍ على الفلسفة اليونانية، وقد حاول التوفيق بينها وبين العقيدة الإسلامية".
وتابع: "لقد كان تأثيره كبيراً على المشرق الإسلامي، سواء كان عربياً أو فارسياً. فكل الفلسفة الإشراقية التي ازدهرت في إيران مثلاً، من صُنعه أو تابعة له".
وأضاف جانسينس: "وأما في الغرب اللاتيني المسيحي، فإن تأثير ابن سينا كان كبيراً في فترة من الفترات، بل سبق تأثير ابن رشد إلى إسبانيا وإيطاليا وفرنسا وبقية أنحاء أوروبا. ولكن نفوذ ابن رشد تغلّب عليه لاحقاً".
وتابع المستشرق البلجيكي: "الواقع أنهم ابتدأوا يترجمون مؤلفات ابن سينا إلى اللغة اللاتينية منذ القرن الحادي عشر الميلادي. ثم استمرت عملية ترجمته فترة طويلة لاحقاً. وقد تركزت الترجمة على كتاب الشفاء بكل أجزائه عن المنطق، والفيزيقا، والميتافيزيقا… إلخ".
سبق نيوتن وأينشتاين في نظريات فيزيائية
كانت لابن سينا إسهامات كبيرة في مجالات علمية أخرى، كالفيزياء مثلاً؛ وحسبما جاء في موقع "إسلام أون لاين"، فإنّ الفضل في وضع القانون الأول للحركة يرجع إلى ابن سينا، والمُسمى بـ"قانون ابن سينا للحركة والسكون".
فقد أشار أمير الأطباء من خلاله إلى أنّ "الجسم يبقى في حالة سكون أو حركة منتظمة في خط مستقيم، ما لم تجبره قوى خارجية على تغيير هذه الحالة". وهو بذلك سبق العالم الفيزيائي الإنجليزي الشهير إسحاق نيوتن بأكثر من ستة قرون، والإيطالي جاليليو بأكثر من 5 قرون، وخلفه ليوناردو دافنشي بأكثر من 4 قرون.
كانت لابن سينا أيضاً نظرياته في سرعة الحركة، التي بنى عليها العالم الفيزيائي الألماني ألبرت أينشتاين نظريته الشهيرة في النسبية، كما اهتمّ أيضاً بعلم الفلك. فكان قد تمكن من رصد مرور كوكب الزهرة عبر دائرة قرص الشمس بالعين المجردة، في يوم 24 مايو/أيار 1032، وهو ما أقرّه الفلكي الإنجليزي جيرميا روكس في القرن السابع عشر.
ابتكر جهازاً لرصد مواقع النجوم
دراسات أبو علي الحسين الفلكية عديدة، وأثمرت عدداً من الاستدلالات التي ثبتت صحتها بعد قرون. فقد استطاع مثلاً رصد كوكب الزهرة، كبقعةٍ على سطح الشمس، واستنتج أن الزهرة لا بدّ أن يكون أقرب إلى الأرض مما هو إلى الشمس.
وابتكر ابن سينا جهازاً لرصد مواقع النجوم، وله بعض المؤلفات التي يتحدث فيها عن كيفية عمل ذلك الجهاز ككتاب "الأرصاد الكلية"، و"رسالة الآلة الرصدية"، وكتاب "الأجرام السماوية"، إضافةً إلى كتاب "في كيفية الرصد ومطابقته للعلم الطبيعي".
ألّف كتباً أخرى في الرياضيات وعلم الأحياء والجيولوجيا وعلم النبات؛ قبل أن يموت في مدينة همدان عام 1037 بعد معاناة شديدة وطويلة مع مرضٍ بالمعدة والأمعاء.
حاول علاج نفسه بالأدوية التي يعرفها، والتي ابتكرها هو شخصياً، حتى تيقن من عدم فعاليتها مع علّته. ووفقاً للروايات المتوارثة، يُقال إنه قام في آخر أيام حياته بعتق عبيده والتصدّق بكل ما يملك من مالٍ على الفقراء.