يعد النمو في واحدة من أكبر الإمبراطوريات في تاريخ البشرية إنجازاً لا يصدق، فقد اكتسبت المملكة الرومانية، ثم الجمهورية، ثم الإمبراطورية هذه المكانة عبر أكثر من ألف عام من التوسع والغزو والتجارة والتنمية الداخلية.
ويقول أحد الأمثال القديمة إنَّ روما لم تُبنَ في يوم، بمعنى أنَّ المشروعات الكبرى تستغرق وقتاً كي تكتمل، فالإمبراطورية الرومانية تأسست تدريجياً ونمت على مدى مئات السنوات من دولة مدينة إلى إمبراطورية ضخمة تمتد من بريطانيا إلى مصر.
وكما أنَّ روما وإمبراطوريتها لم تُبنَ في يوم، فإنَّها لم تُدمَّر في يوم أيضاً، كانت روما على مدى قرون مركز الإمبراطورية، في النهاية أصبحت روما كبيرة لدرجة أن الحكومة واجهت صعوبة في حكم وحماية أراضيها الشاسعة، كانت العديد من القبائل تتحرك إلى الأراضي الرومانية ولا يمكن إيقافها، بسبب ضعف القيادة الرومانية وعدم الاستقرار السياسي.
انتقل في النهاية مركز القوة من المدينة، وانقسمت الإمبراطورية بصفة دائمة إلى دولتين منفصلتين عام 395 ميلادية، دولة في الشرق، وأخرى في الغرب.
ما سبب تقسيم الإمبراطورية الرومانية إلى شرق وغرب؟
لعب حجم الإمبراطورية الشاسع دوراً في انقسام الإمبراطورية سريعاً -وجعلت حدودها الضخمة حكمها يمثل تحدياً- لكنَّ بعض العوامل الأخرى، مثل عدم الاستقرار السياسي والاجتماعي، والثورات، والغزوات والتوغلات داخل الإمبراطورية أيضاً أدَّت إلى الانقسام.
فإلى جانب حجمها، واجهت الإمبراطورية الرومانية أيضاً مشكلات متعددة الجوانب، مثل تنافس الحكام الرومان وتهديد القبائل والإمبراطوريات الأجنبية لحدودها.
مع ذلك، كان حجم الإمبراطورية مثيراً للإعجاب، وخلق أيضاً تحديات هائلة.
قال بيتر هيذر، أستاذ التاريخ القروسطي بكلية كينغز كوليدج بلندن في إنجلترا، لموقع Live Science الأمريكي: "كانت الإمبراطورية الرومانية أكبر دولة تشهدها منطقة غرب أوراسيا، ومع أنَّها كانت تبدو كبيرة على الخريطة، فإنَّها كانت أكبر حتى من ذلك عملياً، بسبب سرعات الاتصال، فكان من الممكن أن يسافر المرء براً 20 ميلاً (32 كم) في اليوم، في حين يمكننا الآن السفر مسافة 400 ميل أو 640 كم تقريباً. ونظراً إلى أنَّ المقياس الحقيقي للمسافة هو مقدار ما يستغرقه المرء لتغطية المساحة البرية، كانت الإمبراطورية أكبر بـ20 مرة مما تبدو لنا اليوم".
من بريطانيا إلى مصر
كانت الإمبراطورية الرومانية في أوجها تغطي معظم مساحة أوروبا إلى جانب أجزاء من إفريقيا وآسيا، وامتدت من المحيط الأطلسي غرباً إلى مناطق باتت اليوم أجزاءً من العراق والكويت وتركيا وسوريا شرقاً.
وكانت الإمبراطورية الرومانية، إلى حدٍّ ما، ضحية نجاحها، إذ أصبحت كبيرة جداً لدرجة أنَّها ضمَّت كثيراً من المناطق والثقافات المختلفة، وبينما كانت تنمو، كانت حدودها كذلك تنمو.
ونتيجة لذلك، أصبحت الهجمات وعمليات العبور الحدودية غير المرغوبة- في الغالب من القوط والجماعات البربرية الأخرى- أكثر شيوعاً وصعوبة في التعامل معها بطريقة فعَّالة وفي الوقت المناسب.
الحجم لم يكن العامل الوحيد لانقسام الإمبراطورية الرومانية، لأنَّها كانت ضخمة منذ القرن الأول الميلادي ولم نرَ انقساماً ممنهجاً إلا في القرن الرابع.
وإنما هناك عاملان آخران ضاعفا المشكلة الأساسية المتمثلة في المساحة.
الأول: هو صعود بلاد فارس إلى وضعية القوة العظمى في القرن الثالث الميلادي، وهو ما كان يعني أنَّ على روما أن يكون لها إمبراطور قريباً من الجبهة الفارسية.
الثاني: هو أنَّ تعريف "الروماني" كان قد تغيَّر بحلول القرن الرابع الميلادي ليشمل النخب في الولايات على طول الطريق من أسكتلندا إلى العراق.
وبالنظر إلى حجم الإمبراطورية، كان لكثير من "الرومان" ارتباط ضئيل أو منعدم بمدينة روما نفسها. وكان يُظَنُّ أنَّ تقسيم الإمبراطورية سيُسهِّل الإشراف على هذه الثقافات والمناطق المتنوعة التي كثيراً ما تكون مختلفة.
انقسام الإمبراطورية الرومانية إلى شرق وغرب
استغرقت عملية انقسام الإمبراطورية الرومانية فترة طويلة، وكانت قد وقعت انقسامات قبل الانقسام النهائي بين الشرق والغرب في القرن الرابع الميلادي.
كثيراً ما يعتقد البعض أنَّ الانقسام حدث في نقطة معينة من الزمن، والتاريخ الأكثر شيوعاً هو 395 ميلادية، حين توفي الإمبراطور الروماني ثيودوسيوس الأول وخلفه نجلاه أركاديوس وهونوريوس، اللذان أصبحا حاكمين في الشرق والغرب على الترتيب، وفقاً لما ذكره موقع History Hit التاريخي.
لكنَّ مبدأ الحكم الجماعي، أي وجود أكثر من إمبراطور، كان جزءاً من إطار عمل الحكومة الإمبراطورية لأكثر من قرن قبل هذا التاريخ.
انهيار النظام الرباعي للحكم
فجرَّب دقلديانوس، الذي أصبح إمبراطوراً في عام 284 ميلادية، صوراً مختلفة للحكم الإمبراطوري، وقد أسس دقلديانوس نظاماً رباعياً، أو حكماً لأربعة حكام، بين إمبراطورين كبيرين أو "أوغوستي"- أحدهما في الشرق والآخر في الغرب- وحاكمين صغيرين أو "قيصرين".
لكن سرعان ما انهار النظام الرباعي بعد تنازل دقلديانوس عن العرش في عام 305 ميلادية، وأُعيِدَ توحيد الإمبراطورية بعدما هزم قسطنطين الأول الحكام المعاونين عام 324 ميلادية. لكنَّ الإمبراطورية انقسمت مجدداً عند وفاة قسطنطين، لكن هذه المرة بين أبنائه الثلاثة.
الانقسام الأخير للإمبراطورية الرومانية
إذاً، طالما أنَّ الإمبراطورية الرومانية انقسمت في وقت أبكر بكثير من تاريخ 395 الذي كثيراً ما تتم الإشارة إليه، فلماذا يحدد المؤرخون ذلك العام باعتباره التاريخ الذي انقسمت فيه الإمبراطورية إلى اثنتين؟
الجواب ببساطة هو أن ما حدث بعد عام 395 هو أنَّ الانقسام أصبح أكثر وضوحاً عند النظر إليه بأثر رجعي.
كان من الصعب للغاية تقسيم الحكم والحفاظ على علاقات جيدة بين الزملاء على المدى الطويل. تم ذلك لأنَّه كان ضرورياً، لكن عادةً ما أدَّى إلى توتر، وكانت تلك مشكلة لا يمكن تجنُّبها.
أصدر الإمبراطوران في الشرق والغرب عملات باسم الآخر، وأُرسِلَت مساعدات عسكرية من الشرق إلى الغرب لمواجهة الواندال. مع ذلك، كانت هناك لحظات توتر.
وكان من الممكن أن تنهار العلاقات في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، كثيراً ما كان الشرق والغرب يرفضان الاعتراف بالقنصل الذي يُعيَّن في الجانب الآخر.
كان منصب القنصل آنذاك "منصباً شرفياً تماماً"، وكان يُنظَر إليه في العموم باعتباره مكافأة وليس منصباً رفيع المستوى، بالتالي كان نبذ القنصل يعني إظهار الازدراء لشخصية مبجلة وفي كثير من الأحيان بطولية.
الشرق يضعف الغرب!
كانت القسطنطينية عاصمة الإمبراطورية الشرقية وقد كانت مدينة متطورة ومحصنة بشكل جيد، مما يعكس بقية الإمبراطورية الشرقية، وهو ما دفع معتدين إلى توجيه انتباههم نحو الغرب.
كان قسطنطين قد أضعف الغرب خلال فترة حكمه، بخلاف تفضيله للشرق في تطوير البنية التحتية، ولكن في الحوكمة الاقتصادية أيضاً. لقد رفع الضرائب في الغرب لرفعها إلى مستوى تلك الموجودة في الشرق لتبدو عادلة.
لم يأخذ هذا في الاعتبار الفوارق الاقتصادية بين نصفي الإمبراطورية، وساعدت الضرائب الإضافية على الغرب في زيادة شلل اقتصادهم، الذي تضاءل بسبب ضغوط الحرب المستمرة وانخفاض التجارة.
سقوط روما وانهيار الإمبراطورية الرومانية
بحلول عام 410 بعد الميلاد، كان من الواضح أن الشرق والغرب أصبحا كيانين منفصلين.
تم نهب روما من قبل القوط الغربيين تحت حكم الملك ألاريك، ولم تأت أي مساعدة من الشرق.
بالنسبة لأولئك الذين يعيشون في القسطنطينية، كانت روما مجرد رمز، ذكرى زمن سابق، وليست ذات أهمية سياسية استراتيجية، وكان أسقف روما هو المسؤول السياسي الأعلى مرتبة.
انهارت الإمبراطورية الغربية في نهاية المطاف عام 476 ميلادية، حين ثار أودواكر- وهو قائد جرماني غالباً ما يُشار إليه باسم أول "ملك بربري" لإيطاليا- وأطاح بالإمبراطور رومولوس أوغستولوس. ويُعتَبَر على نطاق واسع أنَّ هذه هي نقطة النهاية للإمبراطورية الرومانية الغربية.
وظلَّت الإمبراطورية الرومانية الشرقية، التي تُعرَف أيضاً باسم الإمبراطورية البيزنطية، حتى عام 1453 ميلادية عندما استطاع السلطان العثماني الشاب محمد الفاتح، فتح مدينة قسطنطينية.