قدم الممثل الأمريكي روبرت داوني جونيور شخصية "شرلوك هولمز" في فيلم بعنوان "Sherlock Holmes" عام 2009 والجزء الثاني عام 2011 وحقق نجاحاً كبيراً في شباك التذاكر.
وقدم الشخصية أيضاً الممثل بنديكت كومبرباتش ولكن بطريقة عصرية، في مسلسل "Sherlock" عام 2010، وكذلك فعل الممثل هنري كافيل بدور شرلوك هولمز في مسلسل "Enola Holmes" عام 2020، ولكن كانت شخصية ثانوية، في مسلسل يركز على شخصية شقيقة المحقق الأكثر شهرة في العالم.
وعلى الرغم من الشهرة الواسعة والنجاح الجماهيري لهذه الأعمال، لكن بداية شرلوك هولمز أقدم من ذلك بكثير.
كيف ظهرت شخصية شرلوك هولمز؟
كانت البداية عام 1887، حين نشر شاب أسكتلندي يبلغ من العمر 27 عاماً، يدعى "آرثر كونان دويل" قصة بوليسية بعنوان "A Study in Scarlet" في مجلة بريطانية لجني بعض المال الإضافي، ولم يكن يخطر بباله أن هذه القصة ستغير حياته بل وتغير وجه الثقافة الشعبية للأبد، وستكون بداية لنوع جديد كلياً في أدب الرواية.
لم تنشأ شخصية شرلوك هولمز من عقل آرثر كونان دويل أو أحد أفراد الشرطة الحقيقين، ولكن من شخصية حقيقة لطبيب وبروفيسور أسكتلندي يدعى الدكتور جوزيف بيل، كان دويل تعرف عليه عندما كان يدرس الطب، وكان جوزيف بارعاً في تشخيص المرضى بسبب قوة ملاحظته، وقدرته على ربط المعلومات والاستنتاج.
شرلوك هولمز حقق ثروة وشهرة للمؤلف وسبب المشاكل
على الرغم من أن قصة "A Study in Scarlet" لم تحقق انتشاراً كبيرة حين نشرها، لكنها مهدت لنجاح الرواية الثانية، فعادت شخصية شرلوك هولمز مرة ثانية في رواية بعنوان "The Sign of Four".
لكن النجاح الحقيقي وانتشار الشخصية بشكل كبير كان عندما بدأ آرثر كونان دويل، نشرَ قصصٍ قصيرة مكتملة لمغامرات شروك هولمز، بدل نشر روايات كبيرة مقسمة في الصحف بشكل متسلسل، وحتى حققت له ثروة مكَّنته من ترك مهنة الطب وتفرغ للتأليف.
لكن تلك النعمة تحولت إلى نقمة بالنسبة لدويل، فعلى الرغم من نجاح شخصية شرلوك هولمز، لكن دويل لم يكن معجباً بالشخصية التي ابتكرها، وكان يريد الكتابة عن شخصيات مختلفة، حتى قرر أن يضع نهاية لسلسلة هولمز بأي طريقة ممكنة.
في البداية حاول رفع المقابل المادي بدرجة خيالية لإثناء الناشرين عن قصص هولمز، لكن محاولته لم تفلح، وأصبح أحد أعلى الكتاب أجراً في عصره.
بين عامَي 1892 و1893، استمر دويل بنشر المزيد من قصص شرلوك هولمز وصلت لـ24 قصة قصيرة في مجلة ستراند The Strand Magazine، ولكن شعر أنه لا يستطيع الاستمرار أكثر من ذلك، وقرر قتل هولمز لينهي القصة وبشكل نهائي.
فكتب في روايته الأخيرة أحداث موت شرلوك هولمز بعد سقوطه من أعلى الشلال في معركة مع عدوه اللدود البروفيسور جيمس موريارتي، وكان دويل يتصور أنه بذلك تخلص من شخصية هولمز بشكل نهائي، ولم يكن يعلم أن مشاكله كانت على وشك البدء.
محبو شرلوك هولمز أول جمهور متعصب لشخصية خيالية
جرت العادة أن الجمهور يستمتع بالشخصيات الخيالية والروايات، ولا يمانع وصولها إلى نهاية بأي شكل من الأشكال، لكنَّ محبي شرلوك هولمز كانوا مختلفين، وقاموا باحتجاجات عند موت شخصيتهم الخيالية، وتعتبر هذه الأحداث من الأمثلة المبكرة على ما نعرفه الآن بالقاعدة الجماهيرية للشخصيات الخيالية.
فانهالت على دويل رسائل كراهية، وتعرض لإساءات لفظية، وألغى عشرات الآلاف من القراء اشتراكاتهم في مجلة ستراند. ولم يتوقف غضب القراء عند هذا الحد؛ فقد شكلوا مجموعات لمطالبة دويل بالتراجع عن قراره.
وصُدم دويل بطبيعة الحال، لكنه أصر على موقفه لما يقرب من 10 سنوات. وأخيراً، عام 1902، بعد تسع سنوات من الضغوط التي تعرض لها من ناشري رواياته والجمهور، نشر دويل رواية "The Hound of the Baskervilles"، التي تروي أحداثاً وقعت في السنوات التي سبقت وفاة هولمز.
كان دويل يعرف أن أي قصة يكتبها عن هولمز نجاحها مضمون، لذا طالب دويل بأجر ضخم لإعادة شخصيته إلى الحياة فعلاً هذه المرة، نشر دويل "The Adventure of the Empty House"، التي كشفت أن هولمز زيَّف موته وأنه عاد إلى لندن من جديد ليرافق الدكتور واطسون (الذي ماتت زوجته بعد اختفاء هولمز). وعاد هولمز وواطسون مرة أخرى إلى منزلهما في شارع بيكر، وواصلا تقديم المشورة والتحقيق في الجرائم في لندن وخارجها.
ومع الحرب العالمية الأولى نُشرت قضية شرلوك هولمز الأخيرة بقلم دويل، "His Last Bow"، عام 1917، التي تروي مشاركة هولمز بعد تقاعده في مهمة تجسس سرية ضد الألمان.
تجسيد شخصية شرلوك هولمز في المسرح
على الرغم من أن آرثر كونان دويل هو مبتكر شخصية شرلوك هولمز، لكن كان هناك الكثير ممن ساهموا في تشكيل الشخصية وإعطائها تفاصيل أصبحت ملازمة لها للأبد، من بين هؤلاء الممثل الأمريكي ويليام جيليت.
عام 1893 كتب دويل أول إنتاج مسرحي عن شرلوك هولمز، التي قدمها ويليام جيليت، والذي ارتدى قبعة صيد الغزلان المميزة التي يرتديها هولمز بالإضافة لغليون هولمز الشهير، الذي وجد جيليت أنه من الأسهل التحدث بغليون منحني عوضاً عن المستقيم.
دويل يتجاهل شرلوك هولمز لأجل الجنيات
تعتبر كراهية دويل للشخصية التي ابتكرها أمراً مثيراً للاهتمام، فعلى الرغم من الشهرة والثروة التي حققها دويل بفضل شخصية هولمز، لكنه لم يكن مولعاً بها كثيراً وحتى كان يكرهها لحد ما.
فقد مثَّل هولمز المنطقي في تفكيره بعض جوانب شخصية دويل بكل تأكيد، لكن ثمة نقطة واحدة كان اختلافهما فيها شديداً، إذ رفض شرلوك هولمز تماماً فكرة وجود ظواهر خارقة للطبيعة، فيما كان دويل "روحانياً ورعاً".
وقد بدأ اهتمامه بالظواهر الخارقة للطبيعة في مرحلة مبكرة من حياته، فكان يلقي محاضرات عن الروحانيات عام 1917. لكن هوسه بها بدأ يتنامى بعد عدد من المآسي التي طالت عائلته.
إذ توفي ابنه كينغسلي عام 1918، وشقيقه الأصغر إينيس بعده بعام، عام 1919، وتبعته والدته عام 1920 وشقيقتان عامي 1924 و1927. ولم يرغب دويل في التواصل مع من فقدهم فقط، لكنه أراد أن يثبت أيضاً أن العالم يخفي وراءه أكثر مما تراه العين.
يقول هولمز في قصة The Adventure of the Sussex Vampire: "العالم كبير بما يكفي ولا يحتاج أشباحاً".
ومن جهة أخرى، انخدع دويل ذو التفكير الروحاني بصور زائفة لجنيات في حديقة. في عام 1922، ألَّف كتاباً جدياً عن دليل مزعوم على وجود مخلوقات خارقة، The Coming of The Fairies. ومع ذلك، كانت هذه المخلوقات مجرد قصاصات من مجلات الأطفال. وخدعة نفذتها مجموعة فتيات يشعرن بالملل، واحدة منهن لم تتجاوز التاسعة من عمرها.
وسقط مبتكر أعظم شخصيات المحققين في الأدب ضحية تلك الخدعة
أفلام ومسلسلات شرلوك هولمز
بسبب النجاح الكبير الذي حققته روايات ومسرحيات شرلوك هولمز، لم يكن مستغرباً ظهورها في السينما، فقد شهدت أواخر القرن التاسع عشر ظهور الأفلام، ولم يستغرق شرلوك هولمز وقتاً طويلاً حتى يظهر في أول فيلم له. وهذا الفيلم "Sherlock Holmes Baffled" الذي صدر عام 1900، ومدته 30 ثانية، يعرض هولمز بثيابه المعروفة وغليونه، ولص غامض يسرقه ويختفي حين يحاول الإمساك به.
وظهرت أفلام ومسلسلات أخرى بدرجات مختلفة من الجودة في القرن العشرين نذكر لك أشهرها:
The Pearl Of Death (1944) -1
كان الفيلم من بطولة باسل راثبون ونيجل بروس في دور شيرلوك وهولمز، وترتبط اللؤلؤة المسروقة بسلسلة من جرائم القتل الوحشية وبالطبع الأمر متروك للمحقق والطبيب واتسون لحل القضية.
The Scarlet Claw (1944) -2
بدلاً من التحقيق في جريمة تحدث في أوروبا كما تعودنا من هولمز، يجلب فيلم The Scarlet Claw هولمز وواطسون إلى كندا، للسماح للجمهور بتجربة بيئة جديدة. في قصة أصلية من قصص دويل، ولكن تتميز فقط بعناصر مختلفة مثل مخلوق خارق للطبيعة يطارد عائلة ثرية.
3- Sherlock Holmes: A Game Of Shadows (2011)
بعد أن ظهر بدور قصير في نهاية أول فيلم لروبرت داوني جونيور، أصبح البروفيسور موريارتي، الشخصية الشريرة الرئيسية في الجزء الثاني، الذي حقق نجاحاً كبيراً.
وتألق "جود لو" أيضاً في نسخة أكثر تركيزاً على الحركة من جون واطسون. مع تقديم صداقته مع هولمز بطريقة تثير الكثير من الضحك ولكن أيضاً الكثير من اللحظات الصادقة. وقدم المخرج جاي ريتشي أيضاً المزيد من أسلوبه في العمل والغموض معاً، ومن المتوقع صدور جزء ثالث في السنوات القادمة.
4- Mr. Holmes (2015)
من إخراج بيل كوندون، استناداً إلى رواية ميتش كولين لعام 2005 "خدعة طفيفة للعقل"، ويضم شخصية شيرلوك هولمز المسن.
الفيلم من بطولة إيان ماكيلين في دور شيرلوك هولمز، وتدور أحداث الفيلم بشكل أساسي أثناء تقاعده في ساسكس، ويتبع قصة هولمز البالغ من العمر 93 عاماً والذي يكافح لتذكر تفاصيل قضيته الأخيرة؛ لأن عقله يتدهور ببطء بسبب الخرف، والسر وراء امرأة غامضة تظهر في ذاكرته. كما يصادق أحد المعجبين، وهو الابن الصغير لمدبرة منزله الذي يريده أن يعمل مرة أخرى.
5- مسلسل Sherlock
يصور مسلسل "شرلوك" شخصية هولمز وهو يحل ألغازاً مختلفة في لندن الحديثة، ويساعد هولمز زميله الدكتور جون واتسون، الذي عاد من الخدمة العسكرية في أفغانستان مع الفيلق الطبي للجيش الملكي.
وعلى الرغم من أن مفتش المباحث التابع لشرطة العاصمة جريج ليستراد وآخرين يشككون في هولمز في البداية، ولكن بمرور الوقت، فإن ذكاءه الاستثنائي وقدراته الجريئة في المراقبة يقنعهم بقيمته.
على الرغم من أن المسلسل يصور مجموعة متنوعة من الجرائم والجناة، فإن صراع هولمز مع عدوه اللدود جيمس موريارتي يعد ميزة متكررة. المسلسل من ثلاثة أجزاء تم بثها من 2010 إلى 2017.