تاريخ المسلمين بالأندلس مليءٌ بالقصص المروعة التي ذهب فيها المسلمون ضحية لهمجية الممالك المسيحية وحلفائها الأوروبيين، فرغم الزخم العلمي والازدهار الذي رافق حكم المسلمين للأندلس، فإن ذلك لم يمنع من تعرضهم لمئات المجازر والمذابح التي انتهت بمحاكم التفتيش بعد نجاح الممالك المسيحية في القضاء على حكم المسلمين للجزيرة الإيبيرية.
كانت مذبحة بربشتر التي وقعت سنة 1064 م، والتي استباح من خلالها جيش النورمان وحلفاؤه الأوروبيون تلك المدينة الصغيرة وقتلوا الآلاف من سكانها من أبشع وأعظم المحن التي مرت على المسلمين في فترة حكمهم للأندلس.
المسلمون في بربشتر يتفرقون والمسيحيون يتوحدون!
على الثغور المحاذية للممالك النصرانية في الشمال، تقع بَرْبَشْترُ، تلك المدينة الصغيرة التي تقع على فرع صغير من أفرع نهر إبره بإمارة سرقسطة.
خلال القرن الـ11م، كانت مملكة سرقسطة من أكبر دويلات عصر ملوك الطوائف، في البدء حكم بنو تجيب المدينة، قبل أن يسيطر عليها بنو هود، فلما توفي سليمان بن هود الملقب بـ"المستعين بالله"، قُسمت مملكته إلى دويلات بين أبنائه الخمسة، وبقيت المدينة الأم سرقسطة بيد "أحمد بن سليمان" الملقب
بـ"المقتدر بالله"، وكانت مدينة "بربشتر " لا تزال تابعة لسرقسطة، وتكلّف أخوه يوسف الملقب بـ"المظفر بالله" بحكمها.
في تلك الأثناء كان بابا الكنيسة الرومانية الكاثوليكية الإسكندر الثاني يبشّر المسيحيين الأوروبيين، بحركة الاسترداد لأول مرة في عام 1063 م.، لم تمضِ على تبشيرات البابا ألكسندر الثاني سوى أسابيع، حتى بدأ تحالف أوروبي في التشكّل في ولاية نورمانديا الفرنسية، حيث كانت قبائل النورمان قد استقروا بها قبل تلك الفترة بعد سماح ملك فرنسا لهم بذلك.
تكوّنت جيوش التحالف تلك بالأساس من قبائل النورمان مدعومين بالفرنسيين والبورغنديين، وإلى جنبهم الكتيبة البابوية والجيوش الإسبانية المحلية المشكلة من كاتالونيا وأراغون.
وبلغ عدد الجيش نحو 40 ألف مقاتل، وسار من جنوب فرنسا إلى البيرينيه، وتقدموا بعدها نحو سرقسطة، وكانت على طريقهم مدينة بربشتر، فقاموا بحصارها.
في كتابه "دولة الإسلام في الأندلس" يشير المؤرخ عبد الله عنان، إلى أن الحملة الصليبية على مدينة بربشتر كانت تحت قيادة جيوم دي مونري، إذ نزلت في البداية بشاطئ قطلونية، وسارت نحو الشرق مخترقة أراضي مملكة سرقسطة الشمالية في طريقها إلى بربشتر.
ويذكر المؤرخ أحمد المقري في كتابه "نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب"، أن يوسف بن سليمان بن هود حاكم المدينة، قصّر في حماية مدينة بربشتر، وترك أهلها للغزاة لغمةً سائغة.
وهو نفس ما ذهب إليه المؤرخ عبد الله عنان، إذ أشار إلى أن المقتدر حاكم سرقسطة، لم يبادر لإنجاد المدينة المحصورة، إذ كانت كما سبق الذكر من أعمال أخيه يوسف المظفر، فكان ذلك منه جبناً ونذالة حسب عنان، أدرك عواقبهما فيما بعد، ولم يستطع يوسف هو الآخر إنجادها، وتركها لمصيرها.
مذبحة بربشتر.. حين استباح جيش النورمان مسلمي بربشتر
استمر حصار جيوش التحالف الأوروبي على مدينة بربشتر أربعين يوماً، صمد خلالها المسلمون داخل أسوار مدينتهم الحصينة، وحدثت معارك عديدة على تخومها بين جيش مدينة بربشتر وجيوش التحالف الأوروبي، استطاع من خلالها المسلمون صدّ عدة حملات للهجوم على المدينة.
كانت مدينة بربشتر تتزود بالمياه من خلال قناة مائية تنقل الماء من النهر إلى وسط المدينة عبر تقنية موزونة، ومع اشتداد وطأة الحصار، قام أحد الساكنين لمدينة بربشتر بخيانة المدينة وكشف أمر القناة.
قام جيش البابا ألكسندر الثاني بغلق القناة بالصخور، لتزيد من معاناة أهل المدينة الذين عانوا من عطشٍ شديد.
أمام الظمأ الذي أصاب أهل المدينة، أرسل ساكنو بربشتر إلى النورمان يعرضون الاستسلام، على أن يؤمنوا في أنفسهم وأولادهم، وأن يخرجوا من المدينة دون مال، فوافق النورمان على ذلك.
لكن النورمان نكثوا بالعهد، وقتلوا كلّ من خرج من المدينة، ولم يسلم من مذبحة النورمان وحلفائهم على مدينة بربشتر سوى قائدها ابن الطويل، وقاضيها ابن عيسى، ونفر قليل من الأعيان.
تفنّنت جيوش التحالف الأوروبي في الفتك بمدينة بربشتر، حتى إنّ قائدهم جيوم دي مونري، حين تجمّع أهل بربشتر عند فناء بابها، قام بالمناداة أن يرجع كل واحدٍ إلى داره رفقة أهله، وعندما فعلوا قام جيش الحلفاء باقتسام ديار مدينة بربشتر بما فيها من عيال ومال، بحسب ما ورد في كتاب "الحلل الموشية في ذكر الأخبار المراكشية".
يذكر المقري أن كل من صارت في حصته دار، حازها بما تحتويه من أهل وولد ومال، فاستولوا على أموال كثيرة، حتى إنّ قائد الحملة جيوم دي مونري، لوحده استفرد بـ1500 جاريةٍ و500 كسوة جمل.
ولم يتوانوا عن ارتكاب أبشع الجرائم من قتل وهتك للأعراض، فقد بلغ عدد القتلى من المسلمين خلال تلك المذبحة زهاء 50 ألف قتيل، بينما تقدّر روايات أخرى عددهم بـ100 ألف.
وفي أقسى مشاهد الجرائم التي ارتكبها جيش النورمان وحلفاؤه خلال تلك المذبحة، كان الجنود يغتصبون المرأة البكر في حضرة أبيها، والثيّب بعين زوجها وأهلها.
بعد تسعة أشهر من مذبحة بربشتر، نجح المسلمون في استرداد المدينة
بلغت أصداء مذبحة بربشتر بلاد الأندلس بأسرها، وقد كان لها وقع شديد في النفوس المسلمين هناك، وكان ممن تحسّر على دعمها ونجدتها، المقتدر بن هود الذي نادى بالنفير العام في الأندلس، وأعلن الجهاد لتحرير بربشتر في محاولة لإسكات الأصوات التي حملته مسؤولية ما حدث.
وبعد تسعة أشهر من المذبحة وسقوط بربشتر في يد النورمانديين، انطلق جيش من المسلمين تحت راية ابن هود، كما أرسل المعتضد بن عباد حاكم إشبيلية كتائب من جيشه، ليسيروا معاً سنة 1065م، نحو بربشتر، فقاموا بحصارها وإحداث ثغرة في أسوارها.
أعاد المسلمون الكرّة، ونجحوا في ردّ الصاع لجيش النورمان، خلال تلك المعركة قتل المسلمون أغلب جنود جيش النورمان الذي تحصّن في المدينة، وحمل بن هود معه بعد المعركة نحو خمسة آلاف من الأسرى المسيحيين إلى سرقسطة.