بعد سقوط الأندلس وفي بداية القرن السابع عشر عند مصب نهر أبي رقراق بمدينة سلا المغربية، هاجر العديد من الموريسكيين "مسلمي الأندلس" من ديارهم متجهين إلى المغرب وبلدان أخرى بعد تعرضهم لأبشع أنواع التعذيب وإجبارهم على اعتناق الديانة المسيحية.
إلا أن هناك قبيلة موريسكية تدعى "الهورناتشوس" قصدت مدينة سلا المغربية للاستقرار، كان الهورناتشوس أكثر قبائل الأندلس رغبةً في الانتقام من الملك الإسباني ما جعلهم يؤسسون في ما سيعرف لاحقاً بديوان الجهاد البحري.
هربوا من إسبانيا بعد اضطهادهم، وحكموا بحار المغرب
كان أول الموريسكيين القادمين لمدينة سلا هم عشيرة الهورناتشوس التي كانت تسكن إقليم إكستريمادورا بالأندلس، كانت تعرف هذه العشيرة بالشجاعة ومهارتها في القتال، كما أنها كانت تمتلك من الثروة ما مكنها من دفع الأموال لبعض المسؤولين المسيحيين في إسبانيا للسماح لهم بالسفر بأَسْلِحَتِهِم وعَتَادِهِم.
لم يكن اختيار مدينة سلا من طرف مسلمي الهورناتشوس مَبْنِياً على فراغ، فسلا هي المدينة المغربية الوحيدة التي لم تسقط قط أمام الإسبان أو البرتغال، كما أنها كانت تعتبر مركز قوة للملاحة البحرية خلال حكم الدولة السعدية التي حكمت المغرب الأقصى من 1603 إلى 1659.
عند وصولهم للمدينة سنة 1610 شعروا أنهم لن يستطيعوا التكيف مع المجتمع هناك رغم إتقانهم للغة العربية وتشبثهم بدينهم الإسلامي، فحسب كتاب "يوتوبيا القراصنة: القراصنة الموور والمرتدون الأوروبيون" للكاتب "بيتر لامبرون ويلسون" الصادر سنة 2003 عَبَرَ الهورناتشور نهر أبي رقراق وبنو سلا الجديدة والتي تعد جزءاً من مدينة الرباط اليوم.
وجدير بالذكر أنّ وجهة النظر الأوروبية تعتبرهم "قراصنة"، باعتبار أنّ نشاطهم الرئيسي كان السطو على الأساطيل الأوروبيّة. بينما هم في الحقيقة هاربون من البطش الأوروبي في الأندلس.
ليلتحق بعدهم الموريسكيون الذين لم يكونوا يتقنون اللغة العربية بشكل كامل – بسبب الاضطهاد الإسباني الذي منعهم من استخدامها لعقودٍ طويلة – بالإضافة إلى أنهم لا يملكون ثروة مادية تمكنهم من الاستقرار داخل أسوار مدينة سلا الجديدة لهذا لجؤوا إلى جنوب سلا.
يوضح الكتاب أن الموريسكيين كانوا متعطشين للانتقام من الإسبان سريعاً، خاصة عند رؤيتهم للسفن المارة بجنب الميناء والمتوجهة إلى أفريقيا أو الولايات المتحدة ما جعلهم ينشئون ديواناً سموه "ديوان الجهاد البحري" والذي أطلق عليه الغرب "ديوان القراصنة".
الموريسكيون وديوان الجهاد البحري
أُسِسَ ديوان الجهاد البحري في مدينة سلا من قبل 14 شخصاً سنة 1624 من موريسكيين حيث كانت في البداية تقوم بهجمات بسيطة تنطلق من وادي أبي رقراق إلى المحيط الأطلسي وتُصَادرَ من خلاله السفن الأوروبية، ثم تعود بها إلى مدينة سلا.
ازدهر اقتصاد المدينة في تلك الفترة؛ حيث كان سكانها يقايضون الإسبان مقابل كل رهين إسباني من مسلمي الأندلس، كما لقي ديوان الجهاد البحري شهرة واسعة وأصبح يضم العديد من الأشخاص سواء الموريسكيون أو سكان مدينة سلا الأصليون.
كما أصبح يملك أحد أقوى الأساطيل البحرية في المحيط الأطلسي ما جعل كلاً من فرنسا وإنجلترا وهولندا يفتحون سفاراتهم بالمدينة وعَقَدَ تعاهد لعدم سطو أي من الطرفين على سفن الآخر، حسب ما جاء في كتاب سلا "المدينة المقفلة" للكاتب المغربي محمد أوبيهي.
لعل من بين الشخصيات التي ستلعب دوراً داخل مدينة سلا هو أحد الأسرى الذي وقع سابقاً بأيدي السفن السلاوية قبل قدوم الموريسكيين كان يدعى "جان جانزون فان هارلم" من أصول هولندية والذي أصبح يعرف لاحقاً باسم "مراد رايس الأصغر" الذي اعتنق الإسلام بالجزائر وفي رواية أخرى بالمغرب.
من أسير إلى أول زعماء جمهورية بورقراق السلاوية
بعد إسلامه أثبت مراد الرايس جدارته ليتدرج في الرتب إلى أن أصبح قائداً للأسطول البحري السلاوي، حيث ذكر الدكتور حسن أميلي في كتابه "الجهاد البحري بمصب أبي رقراق" أن الرايس أقدم سنة 1585 على الاستفادة من مرسى سلا وأطلق منها حملة على جزر الخالدات الكناري نجح من خلالها في نهب مدينة لانزروت وأسر 300 شخص؛ ما أدى إلى هروب الأسطول الإسباني.
ومع تردي الأوضاع في المغرب ووقوعها في صراعات داخلية، وبعد استقرار الهورناتشوس والموريسكيين في مدينة سلا، وسلا الجديدة (الرباط حالياً)، أعلن مراد رايس قيام جمهورية سلا، والتي تعرف باسم جمهورية بورقراق السلاوية. وأصبح هو الزعيم الأوّل لها. وكانت هذه الجمهورية تدفع ما يشبه الضرائب للسلطان السعدي في مقابل بقائها، ليصبح بعدها أول زعيم لجمهورية بورقراق السلاوية.
مراد الرايس من بحار المغرب إلى آيسلندا
بعد إعلان الجمهورية وتنصيب مراد رايس قائداً لها، دخلت سلا في عصر جديد من الازدهار، قائم على أعمال الجهاد البحري في البحر المتوسط والمحيط الأطلسي، ويمكن ذكر واقعتين لمراد رايس وأساطيله البحرية توضح كيف وصلت سفن الجمهورية الجديدة ومجاهدوها إلى أعالي البحار.
في أول واقعة قاد مراد رايس سنة 1627 مراكبه تجاه الشمال، وفي 20 يونيو/حزيران رست السفن على سواحل آيسلندا، تحديداً قرية جريندافيك، وهناك أسروا ما بين 12 إلى 15 شخصاً واستولوا على سفينتين آيسلنديتين.
بعد ذلك حاول الوصول إلى قصر بيسستاير الذي كان يسكنه الحاكم الدنماركي والذي كانت آيسلندا تحت حكمه في ذلك الوقت، إلا أنهم تعرضوا لهجوم من المدافع ما صعَّب مهمتهم، فاكتفى مراد رايس بالغنيمة والأسرى وعاد بهم للوطن لبيعهم في أسواق العبيد، وذلك وفقاً "للرواية الآيسلندية" التي ذكرها موقع "The Islandic Web of Sience".
وقد فتحت هذه الحملة الجريئة الأبواب أمام بحارة ومجاهدين مسلمين آخرين، لشن حملة جديدة بعدها والتي انطلقت من ميناء الجزائر وحققت نجاحاً أكبر.
أما الواقعة الثانية فقد ذكرت في كتاب "منذ فترة طويلة: المزيد من الحكايات عن التاريخ الأيرلندي الأقل شهرة" والذي نشره الكاتب والمدون "رونان جيرو أو دومنيل" والتي يحكي من خلالها عن سقوط بالتيمور التي تقع في إقليم كورك غرب أيرلندا في أيدي مراد رايس ورجاله، وذلك عام 1631.
فحسب الكتاب نفسه قبض مراد الرايس ورجاله على شخص يدعى "جون هاكيت" عندما كان يبحر بمركب صيد، وقد عرض هاكيت عليهم أن يدلهم على القرية في مقابل إطلاق سراحه، وبحسب الكتاب، فإن هاكيت ربما فعل ذلك كراهية في الإنجليز الذين استوطنوا بالتيمور وطردوا الأيرلنديين منها.
لم تكن قرية بالتيمور محصنة بشكل جيد، فبعد أن وصل مراد الرايس الميناء انتظر هو وطاقمه حتى غروب اليوم الثاني وبدأوا الهجوم على القرية، ووفقاً للكتاب فإن قوة من حوالي 200 بحار مسلح هاجموا القرية، حيث وصل عدد الأسرى إلى 100 أسير بعدها قاموا بإطلاق سراح الأيرلنديين والبقاء على الأسرى الإنجليزيين.
في عام 1627 رحل مراد رايس عن سلا، وبدأت النزاعات الداخلية تدب بين الهورناتشوس وبقية الموريسكيين والسكان الأصليين، وفي هذه الفترة كانت الجمهورية قد امتنعت عن تقديم الأموال للسلطان، وبقي الوضع هكذا حتى سيطر الرشيد بن علي الشريف على مصب أبي رقراق سنة 1666.
لتكون هذه السنة هي بداية النهاية بالنسبة للجمهورية التي سقطت تماماً في أيدي السلطان الرشيد الشريف مؤسس الدولة العلوية سنة 1668، وتنتهي قصة جمهورية سلا، ولكن لم تنتهِ معها قصة الجهاد البحري.