"الله يعرف كم بنيت من بيوت الله… وجعلت ألف محراب مكاناً للسجدة".. هكذا قال معمار سنان، أشهر مهندسي الدولة العثمانية، وهو واحد من أشهر مهندسي العالم على الإطلاق.
سنان الذي ارتبط اسمه ومسيرته المهنية بشكل كبير بالسلطان سليمان القانوني وعائلته، إنه معمار سنان، الذي وُلد في العام 1490م، في قرية أغيرناص التركية، التي سُميت بعد ذلك على اسمه "سنان كوي" أو قرية سنان.
التحق سنان بالجيش العثماني في عامه الثالث والعشرين، وتعلَّم النجارةَ، وأصبح نجاراً بسيطاً، انضمَّ سنان للجيش الانكشاري ضمن سلاح الهندسة، وأثبت براعته في بناء الجسر، الذي طُلب منه تدشينه فوق نهر بروت، والذي أبدى تفوقاً فيه حين أتّمه في 13 يوماً فقط.
ولادة أسطورة معمار سنان .. جسر في 13 يوماً
كان هذا الجسر هو ولادة أسطورة معمار سنان، وتذكرة دخوله المجانية إلى قصر السلطنة، وترسيخ مكانته في الدولة العثمانية، إذ تم ذكر اسمه وإنجازه للسلطان، ليثير اهتمامه، ويصبح سنان بعدها من المقربين للسلطان، ويتقلد منصبَ كبيرِ معماريّي الدولة العثمانية.
ولارتباطه الوثيق بالسلطان سليمان وعائلته فقد كانت المساجد التي بناها سنان لهم هي أشهر وأجمل أعمال سنان المعمارية، والتي برع وأبدع في بنائها لتصبح تُحفاً معمارية تَسحَر الناظرين وتأسرهم بجمالها ودقة تفاصيلها، وتقف إلى يومنا هذا شاهدةً على إبداع سنان وشغفه المعماري.
مسجد السليمانية
لَطالما أُعجب سنان ووقع بغرام كاتدارائية القديسة صوفيا، فقد كانت تحفة عصرها، ألهمت آيا صوفيا سنان لبناء واحد من أعظم مساجد الدولة العثمانية والمساجد بشكل عام، مسجد السليمانية، الذي بُني بأمر من السلطان سليمان القانوني، في العام 1550م، واستغرق بناؤه سبع سنوات، سعى سنان لاختيار مكان مميز للمسجد، اختار ربوة مميزة بمدينة إسطنبول، تتحكم في البسفور والخليج الذهبي، حيث يقع على التلة الثالثة من تلال إسطنبول السبعة.
لم يكن السليمانية مجرد مسجد، ولكنه كان مجمعاً ضخماً يضم ثمانية عشر بناء، بين مقبرة السلطان سليمان القانوني وابنته مهرما سلطان، ودار إطعام للفقراء، ومستشفى، وأربع مدارس، وحمام، ومدرسة قرآنية، ودكاكين، وكان المسجد هو محورها جميعاً، ويتميز المسجد بالقباب المميزة، حيث طمح سنان في تجاوز نموذج آيا صوفيا، إذ استلهم منه القبة المركزية المزودة بقبتين نصفين وقباب صغيرة في الزوايا.
ومن جمال عمارة المسجد وتفاصيله المبهرة، قال عنه سنان إن هذا المسجد هو أعظم إنجازاته، ومما ساعده على إطلاق العنان لخياله وإبداعه في بناء المسجد، أن السلطان عندما أُعجب بالخرائط والتصاميم الخاصة بالمسجد، فتح لسنان خزانته لتنفيذ المسجد بلا حساب.
الأرضية صنعها من بَيَاض البيض
ومن النوادر أن سنان استخدم بياض البيض في خلطات الملاط بدلاً من الماء، لمقاومة المطر والثلج والعوامل الطبيعية القاسية التي تشتهر بها إسطنبول، ما أدى إلى استهلاك كميات ضخمة من البيض، الذي كان يحضر منه صناديق خاصة بأعداد لا حصر لها من بلاد الأناضول.
واجتمعت بالسليمانية فلسفة سنان المعمارية القائمة على المبادئ الثلاثة "القوة والنفعية والجمال". يتميز السليمانية بجمال المعمار والبساطة، والقبة المميزة التي تضاهي قبة آيا صوفيا، يتسع المسجد لقرابة خمسة آلاف مصل، ويُعتبر من أكبر مساجد إسطنبول.
مسجد مهرما سلطان.. قصة الشمس والقمر
لمع نجم معمار سنان في عصر السلطان سليمان القانوني، وزاد قربه على المستوى الشخصي من السلطان، حتى وقع في غرام السلطانه مهرما سلطان، المشهورة بجمالها وحسنها، وهي ابنة السلطان سليمان الوحيدة من السلطانة خُرم، ولكن يبدو أن هذا الحب كان مستحيلاً، وتعبيراً لها عن حبه وتخليداً لاسمها الذي يعني سلطانة الشمس والقمر باللغة الفارسية، فـ"مهر" هي الشمس، و"ماه" تعني القمر؛ بنى سنان مسجدين إهداءً للسلطانة مهرماه.
وللمسجدين سر مميز، يدل على حب سنان الشديد للسلطانة مهرماه، وأيضاً على براعته المعمارية الفذة، ففي الحادي والعشرين من شهر مارس/آذار من كل عام وهو يوم ولادة السلطانة، عندما تغيب الشمس خلف مأذنة جامع مهرماه في الجانب الأوروبي، يظهر القمر فوق مأذنة جامع مهرماه في الجانب الآسيوي.
والمغزى من السر أنه كما أن الشمس والقمر لا يلتقيان، فإن سنان وحبيبته مثلهما لا يلتقيان، مسجد مهرما سلطان الأوروبي، في منطقة أدرنه كابي، بناه سنان في العام 1562م، وهو ثاني المساجد التي بناها للسلطان.
ويقع على التلة السادسة من تلال إسطنبول السبعة، وصُنف المسجد من قبل على أنه الأجمل على الإطلاق في الإمبراطورية العثمانية.
تضرَّر المسجد ضرراً كبيراً بالزلازل المتتابعة، إلا أن أعمال الترميم لم تنجح في ترميم المسجد والمجمع المصاحب له بشكل كامل، ولكن لا يزال المسجد محتفظاً بجماله ورونقه، وشاهداً على قصة حب لم تكتمل.
هناك يظهر القمر
مسجد مهرما سلطان الآسيوي في منطقة اسكودار، وهو أول مسجد بناه سنان لسلطانه في العام 1548م، ويتمتع بإطلالة ساحرة على البسفور، وشيد المسجد كمجمع يحتوي على مطبخ كبير للفقراء ومستشفى ومدرسة.
ولبناء هذا المسجد أيضاً قصة، حيث كان يتنافس سنان مع رستم باشا على حب السلطانة، ولكنها في النهاية تزوجت من رستم باشا، وطلبت من سنان أن يبني لها هذا المسجد.
لم تُدفن مهرما سلطان بعد وفاتها في أي من المسجدين، ودُفنت بجوار والدها السلطان سليمان في مسجد السليمانية، ولكن يظل المسجدان شاهدين على قصه حب ابنة السلطان وأشهر مهندسي الدولة العثمانية معمار سنان، ومن أشهر المزارات السياحية في مدينة إسطنبول.
مسجد شاهزاده
كان هو أول مسجد بناه معمار سنان، وأول تحفة فنية لسنان، والمهمة الأولى التي كلف سنان بها من قِبل السلطان سليمان القانوني، حيث أمر السلطان ببناء مسجد شاهزاده، والذي يعني الأمير باللغة الفارسية، تكريماً لذكرى ابنه شاهزاده محمد، الذي توفي عن عمر يناهز 21 عاماً.
اختلفت الأقاويل حول سبب الوفاة، فمنهم من يقول إنه مات بسبب مرض الجدري، ومنهم من يقول إنه وُضع له السم عن طريق أحد أصدقائه التابعين للسلطانة ناهد دوران، والدة الأمير مصطفى، بسبب رغبتها في الإطاحة بالأمير محمد، بعد أن عهد إليه السلطان بولاية العهد بدلاً من الأمير مصطفى.
أمر السلطان ببناء المسجد في العام 1543م بعد عودته من حملة عسكرية منتصرة، كتذكار لابنه المفضل وولي العهد، ويضم المسجد مدرسة ودار ضيافة ومأوى للفقراء ودار تعليم للأطفال، بالإضافة إلى قبر الأمير محمد وخمسة أضرحة في الحديقة الجنائزية الخاصة بالمسجد، منها قبر ابنته همسة سلطان، وأخوه الأصغر جيهانجير.
من المميزات غير المعتادة العرش الخشبي المستطيل فوق تابوت الأمير محمد، والذي يرمز إلى وضعه كوريث للسلطنة، وقد أبدع معمار سنان في بناء المسجد الذي يقع في منطقة الفاتح العتيقة، وصنع منه تحفة معمارية اعتبرت اتجاهاً جديداً في فن العمارة العثمانية.