في الـ8 من مايو/أيّار 1945م، ارتكبت السلطات الفرنسية واحدة من أبشع مجازرها بالجزائر، حين قتلت 45 ألف جزائري في غضون أسبوعين، وبقدر ما كانت آثار تلك المجزرة على الجزائريين كبيرة، فإنّها مهّدت لدخول الجزائريين مرحلة جديدة في نضالهم من أجل الإستقلال.
كان فرحات عباس من النخبة الجزائرية التي تأثرت بالمجزرة، وقامت بمراجعة طريقة نضالها، وذلك بعد أن كان يطالب بدمج الجزائريين مع الفرنسيين وينكر وجود أمة جزائرية، قبل أن تحوّله صدمة المذابح الفرنسية إلى مناضل في سبيل استقلال الجزائر.
فرحات عباس الصيدلي الذي آمن بفرنسا وطناً للجزائريين
وُلد فرحات عباس مكي، بمدينة الطاهير، بولاية جيجل، عام 1899، وسط عائلة امتهنت الفلاحة، وتتكون من 12 فردا، كان والده يشغل منصب "قايد" لدى الإدارة الفرنسية، بدوار بني عافر، ووظيفة القايد هي تمثيل السلطات الفرنسية لدى أهالي القرية، أمّا جدّه الذي كان يطلق عليه "عباس" فقد كان أحد قادة الثورات الشعبية التي اندلعت في أواخر القرن التاسع عشر.
مزج فرحات عباس في تعليمه بين الثقافتين العربية والفرنسية، قبل أن تأسره الثقافة الفرنسية ويؤمن بمبادئها ورسالتها الحضارية، ورغم دراسته لتخصص الصيدلة، باعتباره أوّل جزائري يدرس التخصص أكاديمياً، إلّا أنّه لم يغفل دراسة العلوم الإنسانية والتاريخ، الذي بفضله اهتم بالسياسة والنضال من أجل حقوق أبناء جلدته من الجزائريين.
في سنة 1921، تحصل فرحات عباس على شهادة الباكالوريا، لكنه توقف عن الدراسة للإلتحاق بالخدمة العسكرية في صفوف الجيش الفرنسي بعنابة ومكث بها ثلاثة سنوات، وخرج منها برتبة رقيب .
بعدها التحق فرحات عباس بجامعة الجزائر لمواصلة دراسته الجامعية في تخصص الصيدلة، وفي المرحلة الجامعية بدأت تتكون شخصية فرحات عباس الجديدة التي تؤمن بأنّ فرنسا هي الوطن، وأنّ لا وجود لوطن اسمه الجزائر.
لم يتخلَّ فرحات عباس عن مبادئه الإسلامية في الجامعة، فأسسّ سنة 1924، جمعية الطلبة المسلمين في جامعة الجزائر، كما أنتخب عضواً في جمعية "طلاب شمال إفريقيا"، ليتحول تدريجياً من طالب جاد في الصيدلة إلى مناضل سياسي يخطب وسط الجماهير الطلابية، وينافح عن أفكاره بأنّ لا وطن للجزائريين سوى فرنسا.
فرحات عباس أنكر وجود أمة جزائرية!
كان نضال فرحات عباس خلال فترة العشرينيات والثلاثينيات من القرن الماضي، منصباً حول فكرة المساواة في الحقوق بين الأوروبيين والجزائريين، كما رفع من أجل تجنيس الجزائريين.
وبمناسبة مرور مئة عام على احتلال الجزائر، نشر فرحات عباس سنة 1931، كتاباً يبرز في رؤيته السياسية لمطلب المساواة الذي تبناه، لكن السلطات الفرنسية حجبت الكتاب ومنعت صدوره.
تزامن نشاط فرحات عباس السياسي مع بروز الحركة الوطنية، فصار عباس أحد أقطابها، فقد كان مصالي الحاج يحمل شعار الإستقلال، والشيخ عبد الحميد بن باديس ممثل جمعية العلماء المسلمين يحمل شعار الإصلاح، أمّا فرحات عبّاس فكان يحمل لواء المساواة، قبل أن يتطور فكره إلى إدماج الجزائريين مع الفرنسيين.
كانت التيارات الثلاثة للحركة الوطنية الجزائرية خلال القرن التاسع عشر متناقضة ومتضاربة الأهداف، فكان من البديهي أن يحدث صدامٌ بين هذه التيارات، خصوصاً بعد أن وصلت أفكار فرحات عباس حينها إلى إنكار وجود أمة جزائرية.
ففي المؤتمر الإسلامي الذي نظّم سنة 1936 وجمع مختلف تيارات الحركة الوطنية الجزائرية بما فيهم فرحات عباس، قال هذا الأخير مقولته الشهيرة "بحثتُ في التاريخ، وسألت الأحياء والأموات، وزرت القبور، فلم يحدثني أحد عن هذا الوطن" للتعبير عن إنكار فكرة وجود أمة جزائرية.
استفزت تلك العبارة، رئيس جمعية العلماء المسلمين، الشيخ عبد الحميد بن باديس، الذي ردّ على فرحات عباس بمقال في جريدة الشهاب قال فيه: "..إن هذه الأمة الجزائرية الإسلامية ليست هي فرنسا، ولا يمكن أن تكون فرنسا، ولا تريد أن تصير فرنسا، ولا تستطيع أن تصير فرنسا ولو أرادت. بل هي أمة بعيدة عن فرنسا كل البعد في لغتها وفي أخلاقها وفي عنصرها وفي دينها…".
واصل فرحات عباس تمرده عن اتجاهات الحركة الوطنية، وذلك من خلال إعلانه عن تأييد مشروع "بلوم فيوليت" الذي رفضته معظم أحزاب وشخصيات الحركة الوطنية.
وكان هذا المشروع الذي أطلقه كلٌ من ليون بلوم رئيس الوزراء الفرنسي حينها؛ وموريس فيوليت الذي كان حاكماً عاماً على الجزائر، يقضي بإجراء إصلاحات دستورية بإعطاء حقوق متساوية بين الفرنسيين والجزائريين، مقابل التخلي عن النظر إلى فرنسا كمحتل، وهي نفس طرح فرحات عباس حينها.
أسسّ فرحات عباس حزب "اتحاد حزب الشعب" للدفاع عن أفكاره، وحوّل صيدليته الواقعة بمحافظة سطيف إلى مقرٍ لحزبه، وأقام الندوات والملتقيات الفكرية والسياسية للترويج إلى أفكاره ومطالبه بالمساواة بين الجزائريين والفرنسيين في الحقوق والواجبات.
تطوّع فرحات عباس للدفاع عن فرنسا في الحرب العالمية الثانية وشاهد بعينيه كيف هزمت
مع اندلاع الحرب العالمية الثانية سنة 1939م، وفي سن الأربعين يعلن فرحات عباس عن تطوعه في الجيش الفرنسي من أجل الدفاع عن الأمة الفرنسية في حربها ضد النازية، ويشارك في معارك الدفاع عن باريس، قبل أن يسرّح بعد سقوطها من الجيش الفرنسي.
فرحات عباس يتحوّل إلى مناضل من اجل الجزائر
في الأربعينيات من القرن الماضي، ودون سابق إنذار تحولت أفكار فرحات عباس رأساً على عقب، فالمناضل الذي كان يبحث عن الأمة الجزائرية ولم يجدها، وجدها أخيراً حين قال: "الوطن الجزائري الذي لم أجده سنة 1936 في أوساط العامة من المسلمين، وجدته اليوم"، وذلك بعد عودته مباشرة من مشاركته في الحرب العالمية الثانية وشهادته على هزيمة فرنسا في الحرب.
وبفكرٍ جديدٍ، بدأ فرحات عباس نضاله من أجل الجزائر، وذلك بإصدار بيان يدعو إلى حل لأوضاع الجزائريين، سمّي البيان بـ " بيان الشعب الجزائري" وسلمه إلى روبرت مورفي، الممثل الشخصي للرئيس الأميركي بالجزائر حينها، بعد دخول القوات الأميركية للجزائر في نوفمبر/ تشرين الثاني 1942، طالباً من الحلفاء إيجاد حل للمنطقة بعد الحرب.
تعرض عباس بعد ذلك إلى قمع السلطات الفرنسية التي اعتقلته، ولم يطلق سراحه حتى ديسمبر/كانون الأول 1943.
أسس فرحات عباس بعدها حركة أحباب البيان والحرية، ويناضل بها من أجل تحقيق مطالب الجزائريين.
القطرة التي أفاضت الكأس
التحول الجذري في مواقف فرحات عباس، ومعظم النخبة الجزائرية، كانت الصدمة التي خلفتها مجازر الثامن مايو/أيار 1945، حين قتلت فرنسا عشرات الآلاف من الجزائريين، خصوصاً أنّ جزءاً كبير من المجازر شهدتها مدينة سطيف، التي كان يعيش فيها فرحات عباس.
أدان عباس هذه المذابح، وتكهن بأنّ هذه المجازر ستؤدي حتماً إلى التوجه إلى القوة والثورة، فتعرّض إلى السجن مجدداً.
عاد عباس مجدداً بعد فترة السجن تلك إلى الحياة السياسية من بوابة حزب جديد أسماه الإتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري" وشارك في الانتخابات البرلمانية الفرنسية، مكتسحاً عدد المقاعد في الجزائر.
مع اندلاع الثورة الجزائرية في الفاتح من نوفمبر/تشرين الثاني 1954 من طرف جبهة التحرير الوطني، إنضم فرحات عباس إلى الحزب الثوري، وصار ممثلاً لها في باريس، كما تفاوض بإسمها رئيس الحكومة الفرنسية إدغار فور من أجل جزائر مستقلة تكون مشتركة مع فرنسا.
كما أنّ فرحات عباس تحوّل إلى ممول للثورة بالمال والدواء طيلة فترة مكوثه في فرنسا، وإلتقى أكثر من مرة مع عبان رمضان -أحد قادة الثورة- في فرنسا، وأحمد بن بلة -أوّل رئيس جزائري- في القاهرة.
وحين أعلن عن تشكيل أوّلأ حكومة جزائرية مؤقتة بتونس، كان فرحات عباس هو أوّل رئيس لها، طيلة الفترة من سبتمبر/أيلول 1958 إلى غاية أغسطس/آب 1961، قبل أن يخلفه يوسف بن خدة.
فرحات عباس يتحوّل إلى معارض بعد الإستقلال
بعد الاستقلال، انتُخب فرحات عباس رئيساً لأوّل برلمان جزائري بعد الاستقلال، لكنه سرعان ما استقال منه في 13 سبتمبر/أيلول 1963، بعد معارضته للدستور الذي اقترحته جبهة التحرير حينها.
فتحت معارضة فرحات عباس تلك النار عليه، لينقلب عليه رفيقه في النضال أحمد بن بلة يزجّ به في السجن جنوب البلاد، ولم يطلق سراحه إلا في مايو/أيّار 1965.
انقلب هواري بومدين على رفيقه بن بلة وصار رئيساً للجزائر، وهناك عارض فرحات عباس ما سماه "الحكم الفردي" في الجزائر، فوقّع على "بيان إلى الشعب الجزائري"، في مارس 1976، ندد فيه بالحكم الفردي لبومدين.
هذا الأخير وضعه تحت الإقامة الجبرية، قبل أن يطلق سراحه يوم 13 يونيو/حزيران 1978.
وفي عهد الرئيس الشاذلي بن جديد، أعيد الاعتبار إلى فرحات عباس، بعد أن قلّده وسام المقاومة في أكتوبر/تشرين الأوّل 1984.
بعد سنة من ذلك توفي فرحات عباس يوم 23 ديسمبر 1985، ودُفن في مربع الشهداء بمقبرة العالية الخاصة بكبار الشخصيات والمقاومين الجزائريين.